أعلنت موسكو عن أنّ برنامج عملياتها العسكرية في سوريا سيستمر لمدّة تتراوح ما بين ثلاثة إلى أربعة أشهر، ومن المفترض أن تكون القيادة العسكرية الروسية التي وضَعت هذا البرنامج منذ أشهر عدّة، قد درست كلّ الظروف العسكرية والأهداف المتوخّاة والعملية السياسية التي من المفترض أن تأتي كنتيجة للتطورات الحربية.

هناك من يعتقد أنّ العاصمتين الأميركية والروسية قد اتفقتا سَلفاً على الخطوط العريضة لهذه العملية، على أن تُؤسّس لدور روسي جديد في المنطقة في المرحلة المقبلة. وحسب هؤلاء فإنّ روسيا تقوم بالدور الذي لا تستطيع واشنطن القيام به بهدف تأمين وإنضاج الظروف الميدانية للدخول في المفاوضات السياسية.

ولا حاجة للتذكير بأنّ الطائرات الروسية تُركّز غاراتها الأعنف على الجيوب التي ما تزال تحت سيطرة التنظيمات المعارضة للنظام في المنطقة الساحلية وحمص والتي من المفترض أن تكون منطقة صافية للنظام، بالإضافة إلى المنطقة الجغرافية التي تحيط بالحدود اللبنانية والتي تربط الساحل السوري بالعاصمة دمشق.

وراقبَت الأقمار الصناعية الاميركية التعزيزات التي أرسَلها «حزب الله» إلى المنطقة الساحلية منذ أيام، حيث ستساند هذه المجموعات الجيش النظامي السوري في السيطرة الميدانية على هذه الجيوب، إضافةً إلى التحضير جيّداً لاستعادة منطقة جسر الشغور التي تُعتبَر هدفاً ملِحّاً نظراً لميزاتها الجغرافية.

في اختصار، تساهم طائرات «السوخوي» الروسية في فرز مناطق النفوذ في سوريا وتأمين منطقة صافية تفرض نفسَها على طاولة المفاوضات لاحقاً.

تبقى مشكلة حلب التي لا تزال موضعَ تجاذب قويّ حول من سيَبسط نفوذه عليها، ولا حاجة للتذكير بأنّ النظام الذي يسعى بقوّة إلى استرداد كامل حلب، حاولَ تحقيق ذلك عسكرياً منذ نحو سَنة ونصف السنة لكنّ المعلومات التي وفّرتها الأقمار الصناعية الاميركية والمساعدة التركية للمعارضين أفشَلتا العملية العسكرية التي توقّفت بعد أشهر معدودة.

لكنّ روسيا حاولت الربط بين الساحتين السورية والعراقية، وهو ما دفعَ بالقيادة العسكرية الاميركية إلى وقف برنامجها باستعادة الرمادي، أوّلاً لمنع الربط الميداني بين قوات النظام في سوريا والقوى الشيعية في العراق، وثانياً لإعاطاء دور للقوى السنّية من خلال العشائر لكي يكون لها موقع على طاولة الحوار.

واشنطن التي تراقب عن كثب التطورات في سوريا لا تبدو قلِقة من الحركة الروسية. فعدا عن أنّها متفاهمة مع موسكو على الخطوط العريضة للحضور العسكري الروسي، فهي تُدرك أنّ عوامل عدّة ستضع روسيا في موقع محشور مع تقدّم العمليات العسكرية.

فالتنظيمات الإرهابية قد تندفع للضرب في قلب روسيا لتخفيف الضغط العسكري عنها في سوريا. كذلك ستسعى تركيا المتضرّرة مباشرةً إلى فتح كلّ خطوط التواصل مع «داعش» لرفدِها بالعناصر والتمويل والدعم اللوجستي.

وكان واضحاً التناقض الحاصل بين الداعين إلى ولوج العملية السياسية قبل الشروع في ضرب المتطرّفين، وهؤلاء من أعداء النظام، وبين الداعين إلى الانتهاء أوّلاً من ضرب الإرهاب للدخول بعدها في العملية التفاوضية، وهم إيران وروسيا والحلفاء.

واشنطن أيضاً تستفيد من الدور الروسي المتمسّك ببقاء الرئيس بشّار الأسد لمرحلة انتقالية لتقدّمَه إلى حلفائها بأنّها غير قادرة على تجاوز المطلب الروسي.

في المقابل، ستسعى إيران إلى الإمساك بأوراق ميدانية جديدة، وهي شجّعت قرار دمشق زيادة عمليات التطويع من خلال تخصيصها مساعدة ماليّة شهرية لكلّ جندي سوري تضاف إلى راتبه الأساسي، كما أنّها تؤمّن الظروف المناسبة لإحداث تغيير ديموغرافي، مثل المكان الذي سينتقل إليه سكّان كفريا والفوعة، والذي سيكون في القرى القريبة من الحدود اللبنانية، في وقتٍ تراقب طهران بكثير من القلق تنامي «داعش» السريع في أفغانستان التي تتقاسم معها حدوداً طويلة.

أمّا روسيا، فتسعى إلى تثبيت بنيتها العسكرية التحتية لتُوسّعَ رقابتها الأمنية والعسكرية للتنظيمات المتطرّفة التي تُهدّد مناطقها، ولتشكّلَ لها قاعدة متينة تسمح لها بانتزاع دور سياسي أساسي وواسع في الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة. دور ترحّب به واشنطن ضمناً شرط ألّا يمسّ الخطوط الحمر لمصالحها المباشرة، دور يساعدها على تمرير مشاريعها مع حلفائها.

منذ أشهر عدّة، وصَف الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله ما يَحدث بأنّه إعادة «عجن» المنطقة، وهو ما يحصل الآن انطلاقاً من سوريا. ولأنه عند تغيير الدول يجب حفظ الرأس، يبدي الفاتيكان قلقاً عميقاً حول المسيحيين والخشية من أن يدفعوا ثمناً يُنهي وجود مَن تبقّوا في الشرق.

وتروي مصادر ديبلوماسية أنّ البابا فرنسيس وخلال لقائه الرئيس الاميركي باراك أوباما طرَح أمامه وبإلحاح هذه الهواجس، مرَكّزاً على وضع المسيحيين في سوريا ولبنان.

ومنذ بضعة أسابيع، زار وفدٌ من متخصّصين في الإدارة الفاتيكانية لبنان بعيداً عن الأضواء والتقى مسؤولين سياسيين محدّدين، إضافةً إلى مسؤولين عسكريين وأمنيّين، وفي طليعتهم المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم. وكان واضحاً تركيز الوفد على إبعاد المسيحيين عن الصراع المرعب الذي يزلزل الشرق الأوسط، وقدّر عالياً الجهود التي مارسَها اللواء ابراهيم في قضية فكّ احتجاز راهبات معلولا.

وفي سابقة تُسجّل للمرّة الأولى وتحمل مؤشّرات ومعاني كثيرة، حدَّد الفاتيكان لقاءً لرئيس جهاز أمني لبناني مع البابا. وعلى رغم أنّ رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم تحدّث عن لبنان والمنطقة عموماً ونبذ الحرب والدعوة إلى التقارب، إلّا أنّ الرسالة كانت واضحة.

يَجهد السفير الأميركي في لبنان ديفيد هيل خلال لقاءاته المختلفة في نفي وجود أيّ تفاهم أميركي - روسي على ما يحصل في سوريا. لكن من يُصدّق؟

وقريباً سيشهد لبنان زيارات متتالية لمسؤولين غربيّين. صحيح أنّ هؤلاء سيجدّدون دعوتَهم إلى إبعاد لبنان عن العاصفة السورية وتأمين حدٍّ أدنى من الاستقرار الأمني والسياسي، إلّا أنّ هذه الزيارات تعني أيضاً أنّ الساحة اللبنانية ستتلقّى انعكاسات التطوّرات السورية، خصوصاً مع بدء مرحلة المفاوضات والتسويات.