يلتئم المجمع المقدّس للكنيسة الأرثوذكسيّة برئاسة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق يوحنا العاشر يازجي في دورته العادية يوم غد والأسئلة تتراكم في هواجس الأرثوذكسيين حول مآل الأمور بدءًا من انتخاب راعي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما وصولاً إلى تفعيل مقررات المؤتمر الإنطاكيّ وقد بقيت حتى تلك اللحظات حبرًا على ورق راقدة في أدراج البطريركيّة. السؤال المطروح على أذهان مطارنة المجمع وبطريرك الروم، لماذا يخشون من جوهر المشاركة الفعليّة بينهم وبين ما سمي "بالعوام" أو الشعب المؤمن، وهم يعلمون بأنّ الكنيسة في معناها اللغويّ واللاهوتيّ وفي هيكليّتها التنظيميّة هي أمّة الله "أمّة مقدّسة" وهو المصطلح الأدقّ الوارد عند بطرس الرسول، أي أنّها الشعب المؤمن، العابد لله، والتائق ليبقى أنظومته ووجهه على الأرض؟

ثمّة معضلة تاريخيّة قائمة على الأرض، وهي معضلة رسوخ الإكليريكانيّة الطاغية في الكنيسة لامتصاص معايير السلطة في كلّ العناوين والتفاصيل المطروحة للنقاش، بعيدًا عن الشفافيّة الكاملة المختصّة بها. ومن مطلات التاريخ، أنّ البطريرك الراحل إغناطيوس الرابع دعا سنة 1993 إلى مجمع أنطاكيّ موسّع في البلمند تمثّلت به الأبرشيات كلها في مثل هذا الشهر، وكان العنوان تفعيل دور العلمانيين والتعاون بينها. وفي إحدى الجلسات وقف شاب متحمّس كانت الكنيسة جزءًا من حياته، وخاطب البطريرك والأساقفة على هذا النحو: "أيها السيد البطريرك ويا أصحاب السيادة، يزيّن لي بأنّ المعضلة في كنيستنا تتجلّى في هذا التفريق المتفشّي بين فريق إكليريكي وآخر علمانيّ. وهو يتجلّى من وظيفة محورها السلطة ولا علاقة لكتابنا به. أنتم الأساقفة أو البطريرك، سلطتكم مستمدّة من إله فقير محبّ حتى حدود الإمّحاء، ارتضى قبل آلامه وموته، وفي العشاء الأخير أن يغسل أرجل تلاميذه ويقبلها في اللحظة التي أسس فيها كنيسته بسرّ الشكر، وبعد ذلك ذهب إلى وجعه، ارتفع عاريًا على الخشبة بجسده الممزّق المديد، فاسمحوا لي بالقول بمنطق التسويغ، بأن المسيح هو مسيح الفقراء والمتألمين، وليس مسيح السلطة والمتسلطين، وأنتم ما كان لكم من سلطة لو لم تعطَ لكم من فوق، ومن جوف هذه الحقيقة الساطعة التي لا تعلوها حقيقة أخرى. سلطتكم هي سلطة غسل الأرجل والخدمة فأين أنتم منها وأين مؤسساتنا منها؟" وأكمل خطابه قائلاً: "العلمانيّة فكر مستورد من الثورة الفرنسيّة الكبرى، واستكملت مع الماركسية والثورة الشيوعيّة في موسكو، فما دخل الكنيسة بلاهوتها بهذا المصطلح، لكنكم وببساطة تشاؤون نعت الشعب المؤمن بالعلمانيّة لتقولوا بأنّ من يطالب بمنطق المشاركة في الكنيسة هم مارقون، أو هم جزء من تلك الثورة، فوجب نأيهم من هذا المنطق وسلوكياته، وذاك موقف أضعف الكنيسة، ويجعلها بجوهرها مهمّشة بكلّ ما للكلمة من معنى". أحدث هذا الخطاب دويًّا كبيرًا بين الحاضرين ولم يجرؤ أحد على الاعتراض عليه لأنّه سطع بالحق باعتراف أحد المطارنة آنذاك.

خطورة الوضع الكنسيّ في الدائرة الأرثوذكسيّة الأنطاكية، أنّ المجمع بعيد كل البعد عن هواجس الناس وأسئلتهم الكبرى في الوجود، وبعيد عن ملامسة الواقع المعيش المرتبط بعلاقة الكنيسة بهذا العالم المتخبّط المتدحرج نحو قيم فارغة ومصطلحات جوفاء يمتصها الناس ويتقبلونها في سياقهم الاجتماعي والأخلاقيّ، وفي المعطى السياسيّ الذي يعنى بواقع المسيحيين في سوريا و​لبنان​ و​العراق​، بل بواقع مسيحيي القدس، وعلاقة كلّ ذلك بالإسلام، نتساءل ماذا قدّمت الكنيسة الأرثوذكسيّة شيئًا جديدًا للناس لكي يستمروا متأصلين بأرضهم ويشهدوا لإيمانهم في هذا المدى؟

والخطورة بعينها ألاّ يصغي آباء المجمع إلى صوت الناس في الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس. عدم الإصغاء، والتحرّك بالتفاعل ومن دون اصطفاف ضيّق مع الناس يكشف أنّ الكنيسة ليست في هذا العالم، وبأنّ منطق التفريق بين فريقين وأنظومتين في الكنيسة لا يزال مهيمنًا، وهو مساهم بشكل أو بآخر بضمور الحضور المسيحي في المشرق العربيّ. وفي كلّ مرّة يلتئم المجمع على مدى يومين يخرج في ختامه ببيان إنشائي يغلّف به الخلافات الداخليّة، كما يضمّنه عبارات لا تنتمي إلى عالم الواقع في المواكبة الفعليّة لآلام المسيحيين في سوريا. ويسطع الأسلوب لفظيَّا خارج سياق التوصيف الدقيق بكياسة وضبابيّة تنتمي إلى عالم الدبلوماسيّة الناعمة، وكأننا بتلك الدبلوماسيّة ساعون لمحاباة الآخرين خشية منهم، فيما المطلوب وبقوّة أن نسعى مع هؤلاء الآخرين لوضع الإصبع على الجرح، وهو جرح "داعش" في المنطقة كما فعلت الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة مؤخّرًا في دعمها الحرب على الإرهاب من المنظار الروسيّ كواجب أخلاقيّ. والمأساة أن يهتك بعضهم تلك الرؤية بمحاولة تجويفها من مضمونها بمدارس لاهوتيّة استسلاميّة لم تقدّم سوى الخيبات المتراكمة على مستوى الحضور المسيحيّ في المنطقة، والأسئلة المطروحة: لماذا لا يمكننا اعتبار مكافحة الإرهاب عاملاً أخلاقيًّا وحافزًا روحيًّا لنعيش بسلام مع الآخرين ضمن إسلام قرآني متلاق مع رؤى المسيحية المشرقيّة في استعادة للهوية العربيّة المفقودة؟ ألم يخطف هذا الإرهاب عينًا مطرانيّ حلب ​بولس يازجي​ ويوحنّا إبراهيم، فماذا فعلت الكنيسة من حراك كبير لكي نعرف في الحدّ الأدنى مكان اختطافهما؟

المشاركة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، بدءًا من تحرير مقرّرات المؤتمر الأنطاكيّ من ظلمة الأدراج، وصولاً إلى استعادة منطق المجالس المليّة في الأبرشيّات برئاسة مطران الأبرشيّة حافز كبير للتأكيد على شركويّة الكنيسة بإطارها البنيويّ. السؤال المطروح على وجدان المطارنة: هل يسمح لمعظم الأرثوذكس بأن يطّلعوا على واردات المؤسسات من ماليّة ما سواها وصادراتها؟ إذا تدرّجنا في هذا التوصيف بأنّ الكنيسة هي الشعب المؤمن، أفليست المؤسسات من استشفائيّة وتربويّة تعنيه بالعمق وقد وجدت له، ألا يحق لهذا الشعب بطرح الأسئلة؟ ما هو دور المؤمنين في الإدارة الفعليّة؟

إبطال القانون 55 بقانون 73 الصادر عن المجمع الأنطاكي في صيدنايا، كسر دور المؤمنين وأبعدهم بكل ما للكلمة من معنى عن سياق المشاركة الفعليّة بإدارة الكنيسة من أوقاف ومؤسسات. ونأى بهم عن تسمية أشخاص ليكونوا رعاة بكل ما للكلمة من معنى. وأضعف موقع الكنيسة في قلب الحدث التاريخيّ والأمميّ، في لحظات التغييرات الجيو-استراتيجيّة والسياسيّة والأرثوذكس جزء عزيز من هذه الأرض ومن نسيج هذا التاريخ. هم جزء من السياق المسيحيّ المتأصّل. وفي اللحظات المصيريّة يفترض بالمجمع أن يتحرّك ليقول قول الحقّ فيتحول القول إلى فيصل يحمله المؤمنون في رؤاهم، حتّى نظلّ كنيسة واحدة شاهدة للمسيح في مشرق يرنو إلى ضياء ساطع من ظلمة القبر الداكنة.