يُدرك اللاعبون الدوليون أنّ الإرهاب الذي بلغ ذُروة القتل والإجرام في سورية والعراق، إنما يشكل تهديداً لكلّ المجتمعات الإنسانية، وأنّ غريزة الإرهاب المتوحشة، سرعان ما تخرج على إرادة المنشأ الذي يوظّف الإرهاب في خدمة مشاريعه. وهذه حقيقة واجهتها الولايات المتحدة الأميركية نفسها، فقد استخدمت الإرهاب في أفغانستان ضدّ «الاتحاد السوفياتي» سابقاً، ثم ارتدّ هذا الإرهاب عليها بأبشع صوره في ما يُعرف بهجمات 11 أيلول الإرهابية التي ضربت قلب أميركا.

رغم ذلك، واصلت واشنطن وحلفاؤها الاستثمار في الإرهاب، واضعة هدفاً استراتيجياً هو إسقاط الدولة السورية، على اعتبار أنّ سقوط سورية، هو سقوط للمنطقة، ولقوى المقاومة التي تشكل تهديداً للأمن الصهيوني.

الانهيارات السريعة في ليبيا ودول أخرى، جعلت الإدارة الأميركية تعتقد بسهولة انهيار الدولة السورية، فأوعزت إلى حلفائها الإقليميين والعرب تركيا وبعض دول الخليج بضرورة تقديم كلّ أشكال الدعم المالي والتسليحي والإعلامي وتسهيل عبور الإرهابيّين إلى سورية، وتصدّرت هي المشهد الدولي الذي يطالب الرئيس السوري بالتنحي!

صمود الدولة السورية رئيساً وقيادة وجيشاً وشعباً شكّل صدمة للدول الراعية للإرهاب، وأدركت واشنطن وبعض حلفائها فشل رهاناتها على سقوط الدولة السورية، كما أنّ هذه الدول اكتشفت أنها لا تستطيع التحكّم بغريزة الإرهاب، فالتنظيمات الإرهابية ارتكبت جرائم وحشية يندى لها جبين الإنسانية… كما أنّ الإرهاب تمدّد وطال فرنسا ودولاً أخرى. لذلك، ذهب اللاعبون الدوليون إلى مجلس الأمن في 15 آب 2014، وصدر عن المجلس قرار بالإجماع تحت الفصل السابع حمل الرقم 2170، وقد دعا القرار إلى الامتناع عن دعم وتمويل وتسليح إرهابيّي ما يُسمّى تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» ومنع تدفق الإرهابيّين إلى سورية والعراق… وإلى اتخاذ تدابير وطنية لقمع تدفق المقاتلين الأجانب الإرهابيين إلى سورية والعراق، ومنع البيع المباشر أو غير المباشر للأسلحة والمواد ذات الصلة إلى تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» والأفراد والجماعات المرتبطين بها. كما نصّ القرار على فقرات عديدة تؤكد ضرورة محاصرة الإرهاب مالياً وتسليحياً وتكنولوجياً وإعلامياً، بما في ذلك عدم شراء النفط، ووجّه المجلس برصد انتهاكات تلك العقوبات وتقديم تقرير خلال 90 يوماً. وقد استتبع هذا القرار بقرار آخر في 24 أيلول 2014 حمل الرقم 2178 تحت الفصل السابع، يطلب من دول العالم أن تتخذ خطوات معيّنة لمواجهة تهديد المقاتلين الإرهابيّين الأجانب بما في ذلك اتخاذ تدابير لمنع هؤلاء من دخول أو عبور أراضيها وتطبيق تشريعات تؤدّي إلى ملاحقتهم أمام القضاء.

لكن، وقبل مهلة التسعين يوماً التي حدّدها القرار 2170، حيث يُفترض أن يتمّ تقديم تقرير حول الانتهاكات لمضمون القرار، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية في 5 أيلول 2014 عن تشكيل «تحالف أساسي» لمحاربة «داعش» في العراق وسورية، وأنّ التحالف سيضمّ كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودولاً أخرى.

تركيا التي أدرجت في الإعلان الأميركي على أنها من ضمن الدول المشاركة في التحالف، نأت بنفسها، في حين بدأ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تنفيذ ضربات جوية على مواقع افتراضية لـ«داعش»، ولم يحقق أهدافاً مؤثرة تعيق تمدّد هذا التنظيم، إلا في جزئية صغيرة، وهي عندما شكل التنظيم تهديداً لإقليم كردستان في العراق.

التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة الأميركية، تكفَّل بالاستحواذ على أمر تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي المذكور، وفق الأجندة الأميركية، ما سمح لتركيا بمواصلة تأمين عبور الإرهابيين إلى سورية، واستمرار دعم المجموعات الإرهابية بالمال والسلاح والمؤازرة الإعلامية من دول خليجية معروفة.

بعد مرور عام على تشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لم يحقق هذا التحالف أيّ بند من البنود التي نص عليها القرار الدولي 2170، لا بل إنّ التنظيمات الإرهابية استطاعت أن تتمدّد أكثر في الجغرافيا السورية، وظلت كلّ خطوط الدعم مفتوحة لهذه التنظيمات، خصوصاً الدعم المالي الخليجي وتأمين طريق عبور الإرهابيين عبر تركيا. وهذا دليل على أنّ التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن غير جدّي، وهو يشكل التفافاً على القرارات الدولية التي تدعو إلى مكافحة الإرهاب بوصفه يشكل تهديداً للمجتمعات قاطبة.

روسيا الاتحادية التي حرصت منذ بداية الأحداث في سورية على ضرورة انتهاء هذه الأزمة من خلال حلول سياسية، كرّست كلّ جهودها في سبيل التوصل إلى حلّ سياسي على حساب أية حلول عسكرية، وهي استضافت مؤتمرات واجتماعات ولقاءات عدة في هذا السياق، ولم تقف قنوات الاتصال مع ما يُسمّى معارضة، ولا مع الدول التي ترعى هذه المجموعات. لكنها كانت تصطدم دائماً بتعنّت رعاة المجموعات الإرهابية المسلحة، ما عطل إمكانية الوصول إلى حلّ سياسي.

السياسة الروسية الهادئة والعقلانية أدركت منذ بداية الأحداث في سورية، أنّ ما يحصل ليس حراكاً داخلياً له مطالب معينة، بل هو يندرج في سياق مخطط يرمي إلى إسقاط الدولة برمّتها، لذلك، كان الموقف الروسي حاسماً في مجلس الأمن الدولي من خلال ممارسة حق النقض «الفيتو» ضدّ أيّ قرار يستهدف إسقاط الدولة السورية، على غرار ليبيا وغيرها، لأنّ سقوط سورية يعني تأبيد الأحادية القطبية الأميركية التي نشأت بعد سقوط «الاتحاد السوفياتي»، وقطع الطريق أمام روسيا الاتحادية العائدة بقوة إلى المسرح الدولي لرسم توازنات دولية جديدة.

لم يفهم الأميركيون جيداً أنّ روسيا مصمّمة على استعادة موقعها في رسم المعادلات الدولية والإقليمية، وأنّ تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب بمعزل عن روسيا وسورية، إنما هو إمعان في السياسة الأحادية، ولم يفهم الأميركيون أنّ توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1 ، إنما جاء في سياق تكريس واقع جديد على الساحة الدولية.

انتظر الروس عاماً كاملاً، رصدوا خلاله عمليات التحالف الأميركي، وسجلوا مخالفة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لنصوص القرارات الدولية، ورصدوا أيضاً هجمات التنظيمات الإرهابية وتمدّدها في الجغرافيا على مرأى التحالف الأميركي.

اكتملت الصورة لدى الروس، وتشكلت عندهم قناعة ثابتة بعدم جدوى التحالف الأميركي ضدّ الإرهاب، وبأنّ هذا التحالف يندرج في سياق محاولات أميركية تحتكر تنفيذ القرارات الدولية استنسابياً. لذلك طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبادرة لمكافحة الإرهاب، داعياً دول العالم إلى أن تكون جزءاً من تحالف دولي حقيقي وجدّي لمكافحة الإرهاب، تحت سقف مجلس الأمن الدولي وعلى قاعدة احترام سيادة الدول، وأن تكون الدول التي تتعرّض للإرهاب أساسية في هذا التحالف.

مبادرة بوتين قوبلت بشبه تجاهل من الدول المتورّطة في دعم الإرهاب، فردّت روسيا على هذا التجاهل بقرار حاسم قضى بالوقوف إلى جانب سورية في الحرب التي تخوضها ضدّ الإرهاب. وهو قرار فاجأ اللاعبين الدوليين، الذين حاولوا على مدى السنوات الماضية، عبر إعلامهم وصحافيّيهم الترويج أنّ روسيا غير جادّة في وقوفها إلى جانب الدولة السورية، وأنها ستتخلى عن هذا الدعم، في اللحظة التي تحصل فيها على «رشوة» دولية!

مع أولى الضربات الجوية الجدّية التي نفذتها الـ«سوخوي» الروسية والـ«ميغ» السورية على مواقع الإرهابيين في عدد من المناطق السورية، تولّد لدى الولايات المتحدة شعور بدونية القوة والفاعلية، وظهر هذا الشعور في تصريحات ومواقف المسؤولين الأميركيّين المرتبكة وغير الواضحة، وهو شعور لازم لاعبين كباراً كثراً، وربما يؤدّي هذا المسار إلى الانخراط في ما كان دعا إليه الرئيس بوتين، أيّ الاشتراك في تحالف دولي جدّي لمكافحة الإرهاب.

وبانتظار ما ستؤول إليه الأيام المقبلة، على وقع الضربات الروسية ــــ السورية، يجب التذكير بأنّ الحرب على سورية ستنهي عامها الخامس، وليس خافياً أنّ هناك أكثر من ثمانين دولة انخرطت في هذه الحرب عبر دعم المجموعات الإرهابية المتطرفة. وهذه الدول من موقعها الداعم والراعي للمجموعات الإرهابية تشنّ اليوم حملة ضدّ وقوف روسيا الاتحادية إلى جانب الدولة السورية.

وعليه، فإنّ وقوف روسيا إلى جانب سورية في مواجهة الإرهاب، أمر غاية في الأهمية، خصوصاً أنّ روسيا لم تخرج عن الإطار القانوني والأخلاقي لهذه المشاركة، فهو بناء على قرار الدولة السورية الحاسم بمواجهة الإرهاب. وهو قرار عبّر عنه الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد بقوله: «الجهود السورية الروسية الإيرانية العراقية يجب أن يُكتب لها النجاح في مكافحة الإرهاب، وإلا فنحن أمام تدمير منطقة بأكملها».

الولايات المتحدة و«إسرائيل» وتركيا ودول غربية وإقليمية وعربية أخرى، كلها شاركت في دعم الإرهاب والحرب ضدّ سورية، في سياق مخطط التفتيت والتقسيم والتدمير بما يهدّد فرص وحدة بلادنا وشعبنا. والمطلوب إسقاط هذا المخطط بكلّ الوسائل المتاحة.

يقول سعاده في ندائه إلى السوريين العام 1940: «نرفض أن ننعزل عن العالم ومجرى الشؤون الانترنسيونية، ولكننا نشترط أن نكون على علاقة مع أيّ دولة أجنبية قائمة على أساس الاعتراف بسيادتنا القومية».