إنّ الحديث عن الدخول في اتفاقيات كبرى تدخل المنطقة مرحلة من المعاهدات الدولية المفصلية كـ»سايكس ـــــ بيكو» سياسي جديد، أحد أبرز أوجه المتغيرات التي تتقدم نحو المنطقة منذ العام 2011، عندما برزت أحداث «الربيع العربي»، كنقطة تحوّل فيها، بين مجتمع يتوق إلى التغيير وأنظمة سياسية محكومة بظروف ومعطيات أبعدت عنه أي أمل في تحديد مصيره، لأسباب أبعد من أن يتحكّم بها.

وعلى الرغم مما شهدته المنطقة من تدهور أمني كبير ومخاطر تقسيم وفتنة طائفية لا تزال تلوح في الأفق جراء ثورات التغيير، إلا أنها، بلا شك، أدت إلى تحول كبير في السياسة الدولية وخلطت الأوراق وبالتالي النفوذ واستطاعت نقض مفاهيم سادت لعقود طويلة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي أفرزت شكلاً ثابتاً للنظام العالمي كرّس الولايات المتحدة الأميركية زعيمة في هذا العالم موظفة نفوذها، خدمة لظهور الكيان الصهيوني.

جاء «الربيع العربي» فقلب التوازنات عكس المُشتهى من إمكانية مساهمته في تفتيت المجتمعات العربية وتقسيمها وفكّ التحالف المفترض بين إيران وسورية وحزب الله، وصولاً إلى اضمحلال القوى الفلسطينية المقاومة، كتحصيل حاصل، مع إمكانية سيطرة الأميركيين على كلّ المتغيرات المتوقعة في البلدان التي خاضت التجربة الشعبية الجديدة، فكانت المفاجأة عجز واشنطن عن إحكام سيطرتها فعلياً على المشهد، على الرغم من قدرتها على التحكم بحركة المجموعات الإرهابية المسلحة من خلال تمويلها وتسهيل مهماتها الموكلة إليها استخبارياً.

لاحظت واشنطن أنّ زمام الأمور أفلت من يدها في مواطن عدة، وأدركت أنّ سيطرتها المطلقة على المشهد الدولي قد انتهت صلاحيتها وذلك بعد فشلها في زعزعة حلف إيران ــــ سورية ـــــ حزب الله، وبالتالي لم تنته حكاية محور أسمته أميركا يوماً «محور الشر» أو «الهلال الشيعي».

فرض «الربيع العربي» متغيّرات أساسية تكشّفت إيجابيتها على النفوذ الروسي في المنطقة، وقد كان فرصة هامة لإعادة توزيع الأدوار فيه وإعادة تقسيمه، بدلاً من محورية واشنطن، فتصدّرت موسكو مشهد الشرق الأوسط الجديد الذي فرض روسيا على المنطقة كلاعب أساسي لإحلال السلام فيها، كاشفاً عجزاً أميركياً عن المضي قدماً بخيارات سياسية وعسكرية من دون التنسيق مع روسيا. وقد أكدت الاجتماعات الثنائية التنسيقية والعمل الدؤوب بين الخارجيتين الأميركية والروسية على مدار أكثر من 3 سنوات متتالية، وهذا ما لم يكن موجوداً في السنوات الماضية، وخصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ووقوع العالم في القبضة الأميركية.

اقتنع الأميركيون اليوم بأنّ المواجهة مع حلفاء روسيا هي مواجهة مباشرة مع روسيا، على الرغم من محاولات واشنطن لجم روسيا بتحريك معارضة رافضة لسياسة بوتين، إضافة إلى تفعيل «الأزمة الأوكرانية» التي كاد يكون النجاح فيها مدخلاً إلى المحافظة على النفوذ الأميركي في المنطقة، ما يقطع على روسيا طريق توسيع مدى اهتماماتها، ففشلت واشنطن وذهبت إلى التفاوض مع موسكو على حلّ سياسي فتح الطريق أمام الأخيرة للدخول المريح إلى سورية، النافذة الأخيرة لها على المتوسط.

تدخل روسيا اليوم الحرب في سورية لتغيير مجراها وليس لإحداث خرق يمكّنها من فرض شروط تجعلها طرفاً أساسياً على طاولة المفاوضات، لأنها حاضرة أصلاً، كشريك اقتنع الأميركي بوجوب التعاون معه، وبالتالي فإنّ التغيير الروسي المنشود، على ما يبدو، هو تصدُّر المشهد السياسي والأمني في سورية من أجل ضمان ما تخشاه وهو عدم تمدّد الإرهاب إليها وهو ما جعلها تدخل في حرب معه أسمتها استباقية.

الدخول إلى سورية من أجل تغيير مجرى الحرب يعني مروحة أوسع لنفوذ يمكن استثماره لتثبيت الأقدام الروسية لحماية هذا الانتصار الذي تبتغيه لأطول وقت ممكن من دون أن تترك عوامل القلق من تدهوره حاضرة. وعليه يُعتبر لبنان خاصرة سورية، حيث حزب الله الذي يشكل لاعباً بارزاً على الساحة الأمنية السورية في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب وهو واحد من امتدادات هذا المتغير، وبالتالي فإنّ التنسيق الروسي معه سينسحب تحولات سياسية لا محالة ليبقى السؤال: هل يمكن أن يشهد لبنان تقدّماً جدياً للنفوذ الروسي فيه حيث لا يشكل التأثير الروسي الداخلي اليوم ما يذكر بحضور موسكو في أروقته السياسية الداخلية؟ هل ستترجم روسيا من خلال هذا التواجد في سورية نيات للتدخل في لبنان، بما يتناسب مع تطلعاتها في شأنه؟

وحده النفوذ السعودي في لبنان اليوم على موعد مع اهتزاز حقيقي، ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد رئيساً وبالتدخل الروسي في سورية، وبما أنها تتقاسم وواشنطن حلّ الملفات الساخنة في المنطقة، تتكشّف أمام موسكو فرصة جدية لاستثمارها في لبنان بضعف النفوذ السعودي بعد فشل رهاناته في سورية وتضرُّره من الاتفاق الغربي مع طهران. فهل تمتد مظلّة الحلول الأميركية ـــــ الروسية نحو لبنان فيدخل رسمياً عصر النفوذ الروسي في المنطقة؟

هل ستستثمر موسكو عجز الرياض عن الحسم في لبنان وتعتبره مدخلاً لتلعب دوراً أساسياً في الداخل اللبناني، كبديل فرضته التوازنات الجديدة؟