في الثامن من آب عام 2008 اجتاحت القوات الروسية جورجيا وفرَضت حكماً ذاتياً موالياً لها في مقاطعتين. يومها لم تُسجَّل حركة اعتراض دولية واسعة، واقتصرت على حالات شجب معدودة ومتفرّقة. تركيا التي تتمتَّع بروابط اقتصادية قوية مع روسيا لم تُسجّل أيّ اعتراض ليبدأ مع ذلك التاريخ النهج الذي سينتهجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى مواجهته التحدّيات الخارجية.

«مبدأ» بوتين الذي يقوم على اساس «الحرب اللطيفة»، عاد وطبّقه في القرم في أوكرانيا، ولو أنّه أدّى الى إدانة دولية أوسع أنتَجت فرض عقوبات على الاتحاد الروسي، وللمفارقة فإنّ تركيا هنا أيضاً لم تُسجّل أيّ إدانة لروسيا.

اليوم يحلو للخبراء الدوليين استحضار المرحلة الروسية في جورجيا من خلال مقاربتهم الوضع السوري، وعلى أساس التطبيق الثالث لـ»مبدأ بوتين». لا شكّ في أنّ مشاورات روسية - أميركية سبقت الدخول الحربي الروسي الى سوريا، وقد بدأ الكلام الرسمي بالظهور في كلا الدولتين عن وجود تواصل بينهما في هذا الشأن.

لا بل إنه يتردّد على نطاق ضيق جداً أنّ العملية الروسية كان من المفترض أن تبدأ قبل شهرين من الآن، لكنها تأخرت بضعة أسابيع لأسباب تتعلق بالظروف السياسية ونقل أحدث المعدات الحربية الروسية وعوامل الطقس والمناخ.

وما كانت زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الى موسكو لتحصل لولا الابلاغ المسبق عن الخطوة الروسية، والأصحّ ما كانت زيارة رئيس اركان الجيش الروسي الى تل ابيب لتحصل لولا وجود موافقة أميركية على العملية.

وموسكو التي حسبت سلفاً وبدقة كلّ أبعاد تدخّلها كانت قد وضعت العامل التركي عنصراً سلبياً متضرّراً من الحضور الروسي، وهي لم تُفاجَأ به.

تركيا خسرت سعيها إلى إنشاء منطقة حظر جوي كانت لتكون منطقة نفوذ مباشرة لها.

وهي خسرت رهانها على اسقاط الرئيس بشار الاسد، لذلك حسبت موسكو على أن تُعزّز أنقرة دعمها المخفي لـ»داعش» وأخواتها بهدف إنهاك الجيش الروسي بالعمليات والتفجيرات وإرغامه على الانسحاب. لذلك تعمدت القيادة الروسية اختراق الاجواء التركية في أجواء لواء الاسكندرون ذي الغالبية العلوية، في رسالة واضحة ومعبّرة جداً قبل أن تُقدّم اعتذاراً شكلياً وتعيد تكرار خرقها في تأكيد على تجديد تحذيرها.

المطلوب من هذه الرسائل، أعلنته المصادر الروسية من خلال اعتبارها أنّ أيّ دعم تتلقاه التنظيمات التي تقاتلها روسيا إنما يُعتبر إعلانَ حال الحرب على روسيا. وجاء البيان التركي بعد الخرق الروسي الثاني مرناً وفق اللغة الديبلوماسية عندما اكتفى بالاشارة الى عدم خسارة روسيا لصداقة تركيا.

وعلى رغم كلّ ذلك، بقيَت واشنطن هادئة لا بل إنها سحبت صواريخ «الباتريوت» التابعة للحلف الاطلسي وفق البرنامج المرسوم سابقاً.

العميد جون بارنيت رئيس الشؤون الاقليمية الاستراتيجية في الجيش الأميركي وهو أيضاً متخصّص في الشأن التركي، اعتبر في دراسة نشرها أنّ التدخل الروسي في سوريا يُلزم تركيا الالتصاق أكثر بواشنطن بعد هامش واسع اعتمده الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، لكنّه يعترف في المقابل بأنّ تركيا مُحرَجة كونها من افضل زبائن الغاز الروسي ولا تستطيع الاستغناء عنه ما يَجعلها مكبّلة اليدين. لذلك فإنّ اللوبي الاقتصادي التركي الذي يُعتبر أحد أهمّ مداميك سلطة اردوغان يعارض بشدة أيّ نسف للعلاقة مع روسيا.

في هذا الوقت، تتفرّغ روسيا لقلب موازين القوى ميدانياً، فيعمل سلاحها الجوي وقنابلها المتطورة جداً على «تنظيف» منطقة «سوريا المفيدة» تمهيداً للتقدم البرّي الذي يتألّف من الجيش السوري و»حزب الله» والمجموعات الشيعية الآتية من العراق وباكستان وأفغانستان. ولا شك في أنّ المعركة المنتظَرة ستكون في جسر الشغور بعدما كان نجاح المعارضين في السيطرة عليها قد شكّل نقطة تحوّل في الحرب الدائرة.

والأهمّ أيضاً معركة حلب، ولذلك ربما تحدث بوتين عن ثلاثة أو أربعة اشهر من المعارك. فالأسد يريد استرجاعَ حلب بأيّ ثمن، وفي المقابل لم تعد واشنطن تبدي تمسّكها بعدم ترك الجيش السوري يتقدّم في اتجاه حلب. وحدها تركيا ترفض ذلك لكنّ الرسائل الروسية واضحة في هذا الاتجاه.

وهو ما يعني أنّ بعد تنظيف «سوريا المفيدة» ستبدأ معركة حلب، وهو ما باشر الطيرانُ الروسي التمهيد له. معركة ستؤدي في أقلّ احتمالاتها الى إطباق الطوق على المعارضين وجعل مناطقهم بحكم الساقطة عسكرياً، أو بتعبير أوضح، إخراجها من المعادلة الميدانية. عندها ستفتح موسكو أبواب التفاوض السياسي او قاعات «موسكو- 3».

وفي هذه اللحظة ستلاقي واشنطن المتحاورين لإنتاج صيغة تعكس التوازنات الميدانية الجديدة. وعندها فقط ستسمح الاجواء بفتح ملف أزمة لبنان من خلال التسويات السورية.

في صيف العام 2012، تمّ تأليف لجنة مكوَّنة من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانيتا ورئيس المخابرات المركزية الأميركية ديفيد بترايوس ورفع هؤلاء إلى الرئيس الأميركي باراك اوباما برنامجاً متكاملاً لتدريب «الجيش السوري الحر» وتسليحه.

وجّه أوباما شكره إلى أعضاء اللجنة، لكنه قال إنّ استطلاعات الرأي تشير الى أنّ أيّ تورّط في الحرب الدائرة في سوريا سينعكس سلباً على الحملة الانتخابية للتجديد له.

فوضع الدراسة جانباً وانطلق في مفاوضات مع ايران أنتَجت اتفاقاً تاريخياً، وتحصين هذا الاتفاق لا يزال يشكّل الاولوية الأميركية تجاه المنطقة كونه سيفتح باب التفاهم لترسيخ الاستقرار في المنطقة من خلال ملاقاة السعودية في منتصف الطريق، وهو ما كان تمّ التفاهم والتشديد عليه مع وليّ وليّ العهد ووزير الدفاع السعودي الامير محمد بن سلمان.