في آخر إنجازات القوات الأميركية في محاربة "القاعدة" و"طالبان" في أفغانستان، أنه بينما كان الجيش الأفغاني يواجه في قتال عنيف التنظيمين في قندوز، تدخّل الطيران الحربي الأميركي لمساعدة الجيش النظامي، فإذا به يقصف مستشفى في تلك الولاية الأفغانية، قضى فيها على عشرات المرضى، بينهم عدد من الأطفال، وأطباء من جمعية "أطباء بلا حدود".

بالطبع، هذه الغارة الأميركية "الخطأ" في أفغانستان ليست الأولى، فقد سبقتها مرات عديدة غارات وقصف أميركي بـ"الخطأ" استهدافوا أعراساً وتجمعات شعبية.

حدث مثل هذه الأخطاء القاتلة والمجرمة من قبَل "اليانكي" في العراق، بعد الغزو منذ نيسان عام 2003، وحدث مثله بعد انفلاش "داعش" في العراق وسورية، قبل أكثر من عام ونصف العام؛ حينما كانت قوات حماية الشعب الكردي تقاتل من أجل تحرير عين العرب "كوباني"، حيث قصفت الطائرات الحربية الأميركية مرة الأكراد، ومرات أخرى عديدة كانت ترمي بالمساعدات العسكرية، وفيها أسلحة متطورة وذخيرة لـ"داعش"، حينما كان يضيق الخناق والحصار عليهم، فكانت بذلك تشكّل شبكة خلاص للإرهابيين من الموت المحتّم أو الاستسلام.

هذه الأفعال الأميركية ليست مجرد صدفة أو خطأ غير مقصود، بل هي أعمال عن سابق إصرار وتعمّد، وهدفها إعادة تعويم المنظمات الإرهابية والتكفيرية شعبياً، وإيجاد تعاطف معها، لأن الهدف الأميركي لم يتغيّر باستخدام الإرهاب وتوظيفه في خدمة مشاريعه، سواء من خلال تقسيم العالم، خصوصاً منطقة "الشرق الأوسط"، أو "الشرق الأقصى"، إلى أجزاء متناحرة ومحاصرة، كون تطورها وتقدمها وتعزيز قدراتها يشكلون تهديداً لهيمنة الإمبريالية الأميركية على العالم، كالاتحاد الروسي والصين والهند.

في "الثبات" كنا منذ بدايات الحرب على سورية، كشفنا أن الأهداف ما بعد سورية هي روسيا وإيران والصين، وبالتالي فإن سورية تشكّل خط الدفاع الأول والثاني عن مصير العالم، ومنع استعباده من قبَل "طاووس" الشر العالمي، ومن هنا كان إعلان فلاديمير بوتين مع بدايات الأزمة السورية أن العالم الجديد يولد من رحم الصمود السوري، لأن الأميركي لو كان يريد فعلاً وجدياً محاربة الإرهاب في "الشرق الأوسط" ومنع تناميه وتقدمه وتوسيع سيطرته، لكان بكلمة واحدة منه لأتباعه وضع حداً له.

فتركيا العضو الفاعل في حلف "الناتو"، والتي على أراضيها تقوم إحدى أكبر القواعد الجوية الأميركية في العالم في انجرليك، لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تفتح مطاراتها وحدودها البرية والبحرية أمام عشرات آلاف الإرهابيين والمرتزقة من كل أصقاع الدنيا، وتقيم لهم على أراضيها مراكز الإيواء والتدريب وسبل الدعم والإمداد اللوجستي والعسكري دون موافقة مطلقة من السيد الأميركي.

والأردن لا يمكن له أن يفتح حدوده للإرهابيين بالتنسيق التام والشامل مع الكيان الصهيوني، الذي وفّر المشافي والعلاجات الطبية لـ"جبهة النصرة" والمرتزقة، وكثيراً ما تدخّل مباشرة عسكرياً لدعمهم، ناهيك عن غرفة عمليات "موك"، التي تضم ضباط استخبارات من الأردن والكيان الصهيوني والولايات المتحدة والسعودية وقطر، من أجل التخطيط للعمليات العسكرية الإرهابية في الجنوب السوري، بالإضافة طبعاً إلى السعودية، التي توجد على أراضيها قواعد وقوات أميركية، كما هو الحال في حفر الباطن و"أرامكو" والدمام وغيرها.. أما ناقلة الغاز القطرية فحدّث ولا حرج، ويكفي أن نشير إلى أن قسماً من الحرس الأميركي منذ حمد المعتزل هم من "طالبان" و"القاعدة"..

كل ذلك كان يترافق مع تدريب عشرات الآلاف باشراف المخابرات المركزية الأميركية تحت اسم "المعارضة المعتدلة"، الذين تبيّن أن مآلهم هو فور انتهاء التدريبات، الالتحاق بصفوف "داعش" أو "جبهة النصرة"، حتى أن واشنطن نفسها اضطرت إلى الاعتراف بهذه الحقائق، وذلك من أجل خلق "هالة أسطورية" على مجموعات الإرهاب.

أمام هذه الوقائع، كان لا بد من بلورة تحالف حقيقي، بدأ العمل في سبيله منذ فترة غير قصيرة، وبوتيرة متسارعة تحرّكت موسكو لبلورة التحالف الشرقي للقضاء على الإرهاب التكفيري في القلعة السورية بقيادة بشار الأسد، فكانت غرفة بغداد التي تضم روسيا، وسورية، وإيران والعراق، والمرشحة لانضمام دول اخرى، منها الصين، التي تشير المعلومات أنها بدأت التنسيق والعمل من أجل هذه الغاية.

هذا التحالف المواجه للإرهاب بدأ الحركة العسكرية النوعية، ووجّه - سواء مباشرة عبر مواقف القيصر فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، أو عبر الغارات النوعية - ضربات حاسمة إلى مراكز ومقرات قيادية ومواقع للإرهابيين محصنة تحصيناً يدل على مدى الخبرات الغربية التي أسهمت فيها، بشكل أذهل الإرهابيين وواشنطن والغرب والعواصم الإقليمية الداعمة، خصوصاً أن آلاف الإرهابيين باشروا الفرار نحو الدول التي جاءوا منها.

وبرأي خبراء عسكريين كبار، فإن الحلف المواجه للغطرسة الأميركية بدأ خوض معركة كبرى للقضاء على الإرهاب، ومنع استخدامه كما يخطط الأميركي والغرب، خصوصاً أن وجهته المقبلة كما بدأت تكشف الوقائع، ستكون روسيا والصين وإيران، لمنع صعود قوى كبرى منافسة لجموح العقلية الإمبراطورية للأميركي.. فالحرب في المنطقة إذاً في مرحلة جديدة، هدفها محاربة الإرهاب حقيقة، والبدء بتقليم أظافر العقلية الإمبراطورية المجنونة، تمهيداً لعالم جديد أسهمت سورية في تكوينه.