بعد المشهدية المُشينة خلال الاجتماع الأخير للجنة الأشغال النيابية، دخلت طاولة الحوار دائرة الدوَران حول نفسها؛ أسوةً بتلك التي تجمع حزب الله و"تيار المستقبل"، وباتت كل مهام رئيس السلطة التشريعية تحديد مواعيد انعقادها، تماماً كما يحدد جلسات انتخاب رئيس للجمهورية، مع فارق بسيط أن جلسات الحوار تُعقد دون أية نتيجة، وجلسة انتخاب الرئيس لن تُعقد قبل أن تُنتج الجلسات الحوارية غالباً ومغلوباً، ويتم التوافق ضمن الحد الأدنى الذي يُرضي الغالب ولا يُهين المغلوب.

ربما بات لزاماً تعديل أجندة كانت مُعدّة لـ"حوار طرشان"، وباتت طاولة لـ"حوار بُكم" يتلاقون لتبادل النظرات ومتابعة التطورات، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي، والاستماع لصرير الشارع اللبناني العاجق بالحراكات، أو هدير السماء الإقليمية العاجقة بالطائرات، مع تبخّر الرهانات على الإقليم في الوقت الحاضر، لأن الأوراق قد اختلطت متسارعة والبراكين قد انفجرت.

وبما أن الرئيس بري هو الثابت الوحيد بين المتحاورين على رأس ثاني سلطات الدولة، والرئيس تمام سلام مجرد "مارق طريق"، ومع تعطُّل التشريع والقوانين فلا يتحمّل الرئيس سلام من المسؤولية أكثر مما تحتمل سلطاته في غياب رئيس الجمهورية وغياب المجلس النيابي عن القيام بواجباته.

كثيرة هي المطالب الشعبية المُحقّة التي ترفعها الحراكات الشعبية، وباتت جعجعة من غير طحين مادام المؤتمَنون على المطحنة لم يُنتجوا ولن يُنتجوا لا قمحاً ولا شعيراً، ووضع الدولة بأكملها بات تحت حجر الطاحونة وفق التقرير الخطير الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2015، وتناول فيه تصنيف لبنان دولة مارقة فاشلة بدرجة امتياز.

من ضمن ما جاء في التقرير، أن ثقة الرأي العام اللبناني بالسياسيين قد تدهورت بشكل دراماتيكي، ما يستوجب قرع جرس الإنذار نتيجة تدهور نوعية الخدمات العامة إلى حد غير مسبوق، وأن الفساد وسوء إدارة المرافق العامة يجعلان لبنان يتراجع أكثر من أي وقت مضى، وبات لبنان يحتل المركز 127 من بين 140 بلداً لجهة الثقة بالسياسيين، ويحتل المرتبة نفسها لجهة الدفع غير المنتظم ومؤشر الرشاوى.

وفي مجال نوعية البنية التحتية وسوء الخدمات العامة، ومن ضمنها الكهرباء، فقد جاء لبنان في المرتبة 138/140، وحل في المرتبة ما قبل الأخيرة (139/140) في تبذير المال العام والإنفاق الحكومي.

أمام هذه الوقائع الفاضحة المعزَّزة بالأرقام، لم يعد من المستبعد أن يكفر اللبنانيون بالطائفية والانقسامات الدينية، لأن الأفواه الجائعة والنفوس المقهورة وصلت إلى حدود التسوّل على أبواب الجوامع والكنائس، ولن يقتات الشعب اللبناني بعد اليوم من "طبخات البحص" التي تُنتجها اللقاءات النيابية والجلسات الحوارية التي تعاني أصلاً من خلل في التمثيل، وأكثر من نصف المتحاورين يطالب الشعب اللبناني برحيلهم، لأن عودتهم ممنوعة في أية انتخابات قادمة، لو حصلت انتخابات.

أما اليوم، وقد خرجت كل الأمور عن السيطرة في إقليم كنا ننتظر منه "المن والسلوى"، فإن حجر الطاحون اللبناني قد توقّف إلى حد الشلل، ولا يتحدثن أحد بعد الآن عن انتخاب رئيس للجمهورية كان ينتظر التوافق السعودي - الإيراني، لأن كارثة حجاج منى قد أطاحت بكل آمال التقارب بين الدولتين، وطبول الحرب قد تُقرع بينهما نتيجة غموض أسباب الوفيات ومصير المفقودين الإيرانيين، ولا يتحدثن أحد عن قانون انتخاب لن يصب في صالح "تيار المستقبل"، ومن مصلحته أن يعرقله، لأنه سيكون الخاسر الأكبر فيه لو جاء وفق النسبية أو الدائرة الواحدة؛ كما يقول الخبير ربيع الهبر، وليتحمل اللبنانيون نوابهم النوائب حتى العام 2017، مادامت الدساتير اللبنانية بكل تعديلاتها - وآخرها الطائف - لا تجيز استفتاء الشعب.

اللبنانيون، إذ ينعون اتفاق الطائف، فإنهم لا يأملون خيراً من استمرار حوارات الطرشان تحت سقفه، ولبنان مقبل على مؤتمر تأسيسي ملزم قد يكون على طريقة الـ"لويا جرغا" الأفغانية (مجلس الأعيان)، بحيث لا يمكن بعد الآن لمن مددوا لأنفسهم وتمددوا على لقمة الناس ومستقبل أولادهم، أن يحتكروا الصفة التمثيلية في أي مؤتمر تأسيسي، بمعزل عن منظمات المجتمع الأهلي والنقابات، وكل ذلك مجرد أحلام مستقبلية بانتظار انفراج إقليمي أو انفجار، يتحدد من خلاله مصير بلد ارتبط وجوده بالخارج منذ القرن السادس عشر (زمن العثمانيين)، ووصل إلى زمن الروس الذين تهدر طائراتهم في جواره، وبات مصيره أكثر من أي وقت مرتبط مع مصير سورية بجناح طائرات قادمة لصياغة "شرق أوسط جديد"، ويبقى الأمل بسقوط الإرهاب في الشرق وعودة الاستقرار، ولو أن هذا الأمل معلّق بجناح طائرة.