هل تدفع الطبقة السياسية الحاكمة لبنان إلى انفجار يطيح بالمطالب الشعبية التي تهدد دورها ومصالحها؛ على غرار ما فعلت في سبعينيات القرن الماضي، أم تسلّم وتقدّم تنازلات تُخرج البلاد من الأزمة التي تعصف فيه؟

سؤال يبدو أكثر من منطقي في ظل التشابه بين الظروف المحلية والإقليمية التي تمرّ حالياً على لبنان، وبين تلك التي شهدها قبل اندلاع الانفجار الكبير عام 1975، الذي خسر فيه لبنان واللبنانيون الكثير من الأرواح والممتلكات.

في ذلك الوقت، تقاطعت الرغبات الدولية في إشعال النار في لبنان، للتغطية على الانقضاض الأميركي والغربي و"الإسرائيلي" على المنطقة، مع تفريط أنور السادات بدور مصر وموقعها، ومع القرار الأميركي والرسمي العربي بالتخلص من المقاومة الفلسطينية، إضافة إلى رغبة بعض الداخل اللبناني بالانخراط في ذلك المخطط، مقابل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وكذلك مع سعي أهل النظام اللبناني إلى "إنقاذه" من المطالب الشعبية التي التف اللبنانيون حولها، والتي هدّدت بنية النظام القائم على تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، فكانت الحرب الأهلية التي بدأت شكلاً ضد الفلسطينيين، ثم تحولت إلى حرب بين مسلمين ومسيحيين، لتُشتّت الشارع اللبناني وتُسقط مطالبه في التغيير والحصول على دولة، بدلاً من مزرعة الطوائف والرساميل.

اليوم، يتكرر تجمُّع ذات الغيوم السوداء في سماء لبنان والمنطقة؛ الأميركي وحلفاؤه من أوروبيين وأعراب النفط، ومعهم تركيا، خسروا رهاناتهم وكل ما رسملوا عليه لجعل العراق وسورية حديقة خلفية لهم، وجاء رفع مستوى الدعم الروسي لحكومتي البلدين، وإشهار الحرب على الإرهاب المدعوم من ذلك التحالف، ممثَّلاً بتنظيم "داعش" وفروع "تنظيم القاعدة"، بمختلف مسمياته، من "جبهة نصرة" وغيرها، ليطيح بأحلام تقاسم المنطقة بعد تقسيم ما سبق أن قسّمه اتفاق "سايكس - بيكو"، وبالتالي بات من الضروري توقّع أن يبحث الأميركي وحلفاؤه عن مكان يردّون فيه على التصعيد الروسي في سورية، خصوصاً في ظل الجنون الذي يحكم تصرفات أعراب الخليج، الذين غرقوا في وديان اليمن وجبالها، بعد أن ظنوا ومعهم الإدارة الأميركية أن الرد الناجح سيكون هناك، وهذا الفشل اليمني يفتح أبواب المخاوف على لبنان، لأن الدول والحكومات التي غزت العراق وسهّلت احتلاله، وأحرقت ليبيا، ودمّرت سورية، وتقصف اليوم اليمن وتقتل شعبه الآمن، لن تقف عند وعودها بالحفاظ على الأمن والاستقرار الهش القائم في لبنان، عندما تقتضي مصالحها مثل هذا الانقلاب، فكيف الحال إذا توافقت تلك المصالح مع أهداف الداخل الطامع في كسر التحركات الشعبية، وفي تحقيق مكاسب سياسية؟

من المؤكد أن أهل النظام اللبناني باتوا محشورين بين فكي استحقاقين يشكّلان ممرَّين إجباريَّين للخروج من المآزق التي تعطّل الدولة ومؤسساتها: إما أن يقبلوا بإقرار صيغة جديدة لإنتاج السلطة في لبنان، تعطي كل فئات الشعب دوراً أساسياً في اختيار ممثليهم في المجلس النيابي، عبر إقرار قانون جديد للانتخابات يعتمد النسبية، وإما اللجوء إلى الشعب لاختيار رئيس للجمهورية، وهو ما طالب به العماد ميشال عون؛ بالعودة إلى الشعب ليكون صاحب الدور الأول في اختيار رئيس البلاد، عوضاً عن أن يبقى هذا الأمر رهينة تدخلات السفراء الأجانب، ولعبة متاحة أمام الزاحفين على أبواب السفارات، الأمر الذي عايشناه منذ عهود الاستقلال، ويتم رفض الخروج منه هذه الأيام، عبر افتعال الكثير من العقبات لمنع وصول الشخصية المسيحية الأكثر تمثيلاً إلى كرسي بعبدا.

وإذا وضعنا في الاعتبار هذا التقاطع الخارجي، مع رفض أهل النظام أي تغيير جذري في تركيبته السياسية أو الاقتصادية، مع الواقع الذي أوجدته التوازنات التي فرضت نفسها بقوة في المنطقة مؤخراً، والتي أخرجت من مضمار الرئاسة اللبنانية كل المتسابقين، ما عدا العماد عون كمرشح أول، أو من يختاره عون، فإننا سنجد أن "سيبة" الانفجار الداخلي قد اكتملت: نظام يرفض التغيير، ويعجز عن مواجهة الضغط الشعبي، وقوى خارجية بانت خسارتها، وهي تبحث عن مكان تردّ فيه بالنار اعتبارها، وقوى محلية يائسة من حماية مكاسبها غير المحقة، وتبقى المحاولة الأخيرة: تقطيع الوقت بالالتفاف على الإصلاحات الاساسية، أو تمييعها، واحتواء التحركات المطلبية، وتيئيس الشعب، قبل ارتكاب الجريمة.