في العام 1960، وضع زعيم الاتحاد السوفياتي الأسبق نيكيتا خروتشوف حذاءه على منصة الأمم المتحدة، متحدياً أميركا، وفي وقت آخر كانت أزمة خليج الخنازير بين أميركا والاتحاد السوفياتي في كوبا حول الصواريخ السوفياتية، والتي كادت تتسبب بحرب نووية بين العملاقين، ثم تفكك الاتحاد السوفياتي ووُلد وريثه الاتحاد الروسي، الذي بلغ الخمسة وعشرين عاماً من العمر الكياني وشُطب من المسرح الدولي، ووُلدت منظومة القطب الأوحد والطاغوتي الذي اجتاح العالم بلا استئذان، ونصب نفسه بابا العالم ومرشده ومعلمه الحاكم المطلق الصلاحية، فما يقوله هو القانون ومايرفضه هو الشر المطلق، معلناً حربه الصليبية عبر الرئيس بوش والمحافظين الجدد، ثم وصف الدول غير الخاضعة له بمحور الشر، ونعت حركات المقاومة بالحركات الإرهابية.. إنه السيد الأميركي.

لم تقف في وجه الغطرسة الأميركية إلا بعض حركات المقاومة خصوصاً في لبنان وفلسطين والعراق، وبعض الدول المقاومة مثل إيران وسورية وبعض دول أميركا اللاتينية وكوريا الشمالية.. سقط العالم بالقبضة الأميركية، وأصبح بعض الحكام من المقتنيات الأميركية في السلطة، ثم تصرّف الأميركيون وكأن الدول مجرد ولايات أميركية لا تنتخب شعوبها الحاكم، بل تعيّنه أميركا، ومن ينتخبه شعبه ولا ترضى عنه أميركا فليس شرعياً ويجب ترحيله بالثورات المفبركة التي تتكون من التكفيريين والمسجونين والمجرمين الذين أطلقتهم أميركا بعد تجنيدهم في سجونها في العراق وغوانتنامو وسجون حلفائها، فكانت "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا، و"الخضراء" في إيران، و"الياسمين" في تونس، و"الربيع الدموي العربي".

صمدت سورية ومحور المقاومة حتى استيقظ الروس والصينيون وانتبهوا إلى أن دورهم سيحين بعد وقت ليس ببعيد، وستحاصرهم أميركا بالنفط والغاز وتشعل دولهم بالتكفيريين ثم تقسّمهم من جديد.. لكن ذلك كان على حساب سورية والمقاومة وإيران، الذين قاتلوا باللحم الحي وصمدوا بوجه المشروع الأميركي إلى أن اقتنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن التكفيريين سينتقلون إليه في الجمهوريات الآسيوية، وحتى داخل موسكو، وكذلك الصينيين عبر تحجيم اقتصادهم بالحصار النفطي وحقوق الإنسان والأقليات المسلمة من الإيغور والهوي الذين تسيطر عليهم السعودية وتركيا.

انتبه الروس ووجدوا أنفسهم على شفير الهاوية، وأن أميركا تعاملهم كدولة من العالم الثالث، فحاصرتهم كما إيران وسورية وكوريا الشمالية، وبدأت تناوشهم في أوكرانيا، ما دفع الرئيس بوتين للانتفاضة الدولية وتجاوز الخطوط الحمر الأميركية بالتدخل خارج الحدود الروسية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، والتحرك للضغط لتسوية الملف النووي الإيراني، وتُوِّج ذلك بالتدخل العسكري في سورية، ولأول مرة خارج السيطرة الأميركية، وإنشاء تحالف دولي جديد مضاد للتكفيريين و"داعش"، مقابل التحالف الدولي الخادع بقيادة أميركا.

إن التدخل العسكري الروسي في سورية بدأ يكتب مرحلة جديدة في العالم لتحقيق الأهداف الآتية:

1- إلغاء منظومة القطب الأميركي الواحد، لصالح منظومة الأقطاب المتعددة.

2- إعلان الحرب ضد الإرهاب التكفيري الذي صنعته أميركا كسلاح دمار شامل يمكن التحكم به وفق المصالح الأميركية.

3- بداية تأسيس حلف عسكري يواكب التحالف الاقتصادي لدول "البريكس" ومنظمة "شنغهاي" والبنك الدولي الآسيوي؛ كمنظومة عالمية تقابل المنظومة الرأسمالية الأميركية - الغربية.

4- انتهاء ما سمي "الربيع العربي" بدون تحقيق الأهداف الأميركية الكاملة بهزيمة محور المقاومة أو تقسيم "الشرق الأوسط" وفق المخطط الأميركي.

5- عرقلة المخطط الأميركي بتقسيم روسيا والصين، من خلال نقل التكفيريين (المارينز التكفيري) إلى أراضيهما.

6- الخطر الذي يلوّح بإمكانة انزلاق الجميع إلى حرب غير مخطَّط لها، بل يمكن أن تشتعل بالصدفة بحادث عرضي غير مقصود، خصوصاً أن الأميركيين مربكون وخائبون، وبدأت أدواتهم في السعودية وتركيا تحاول تجربة حظهم لتحيقق أهدافهم ذاتياً، أو لتوريط أميركا أكثر في حروب اليمن والمناطق التركية الآمنة في سورية.

7- تذويب الاتحاد الأوروبي وإلغاء دوره الدولي الذي ترسمه أميركا، لعدم إمكانية إعطائه حصة في الجبنة الدولية، لكثرة اللاعبين، وعدم استعداد أميركا للتنازل من حصتها لهم، ولذا نرى الغباء الفرنسي في الموقف السلبي في الملف النووي الإيراني، وكذلك في القضية السورية، والذي سيدفع ثمنه الاقتصاد الفرنسي.

إنه عصر الأقطاب الدولية المتعددة، وعصر الدول العظمى في الإقليم، ونهاية دول المال والنفط والعائلات المالكة التي بدأ انتهاء دورها لفشلها في "الربيع العربي" وقرب انتهاء مخزونها النفطي أيضاً.