لم يكد يجفّ حبر البيان التاسع عشر المشترك لـ"حزب الله" و"تيار المستقبل"، والذي أكّد على أهمية الحوار الوطني وتأثيره الإيجابيّ على الجميع، حتى اشتعلت من جديد "الجبهة" بينهما، وعلى أقوى مستوياتها، لترسم علامات الاستفهام نفسها حول جدوى المضيّ بما يمكن وصفه بـ"حوار الطرشان"، بلا تردّد.

وإذا كان هذا "الاشتعال" نشب بين "الرجلين الأكبر" في كلّ من الحزبين، أي الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ورئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​، فإنّ المفارقة التي تُسجَّل للمرّة المئة ربما أنّ خلفيّة السجال لم تكن خلاف الرجلين على مقاربة الاستحقاق الرئاسي أو أزمة النفايات أو أيّ ملفّ داخلي آخر، وإنما الصراع الإقليمي، السعودي ال​إيران​ي تحديداً...

المسؤولية مشتركة!

كان كافياً أن يُنسَب للسيد نصرالله موقفٌ يعتبر فيه أنّ السعودية هي المسؤولة عن القتل في منطقتنا، وأنّها هي من قتلتنا في ​حرب تموز​، حتى تثور ثائرة رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري، الذي قرأ في الموقف "قلباً للحقيقة ونكراناً للجميل". وعلى الرغم من اعتباره كلام السيد نصرالله مضحكاً ومثيراً للسخرية كونه "تطاول" فيه على السعودية، إلا أنّه لم يتردّد في المقابل بالهجوم على إيران بالواسطة، واصفاً الأمين العام لـ"حزب الله" بأنّه "وكيلها السياسي والشرعي في لبنان".

ليس هذا السجال هو الأول من نوعه، بل بات يتكرّر بشكلٍ كبيرٍ في الآونة الأخيرة، مع تغييرٍ ربما في بعض الأحرف والكلمات، لا أكثر ولا أقلّ، تقول مصادر سياسية مطلعة، مشيرة إلى أنّ هذا الأمر إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّ لبنان بات غارقاً عملياً في الصراع السعودي-الإيراني، سواء أقرّ بذلك أم لم يفعل، وبالتالي فإنّ التصعيد القائم حالياً هو جزءٌ من تصعيدٍ أكبر بين الرياض وطهران، ليس نتيجة الحادث المأساوي الذي وقع في منى فحسب، بل يعود بشكلٍ أساسي إلى إعلان السعودية الحرب على حركة "​أنصار الله​" في اليمن مباشرة بعد توقيع القيادة الإيرانية للاتفاق النووي مع الدول الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأميركية.

من هنا، فإنّ المصادر ترفض الرمي باللائمة على فريقٍ واحدٍ وتبرئة الفريق الآخر، معربة عن اعتقادها بأنّ المسؤولية تقع على عاتق الطرفين بشكلٍ أو بآخر. هي ترى أنّ تطوّع الحريري الدائم للهجوم على كلّ من تسوّل له نفسه رشق السعودية ولو بِوَرْدَةٍ ليس أمراً صحياً، وعليه أن يتقبّل أنّ للسعودية خصوماً في لبنان كما لها أصدقاء، ومن حق هؤلاء الخصوم انتقاد سياستها، من دون أن يكون الأمر مرتبطاً بـ"حقدٍ أعمى" وغيرها من التعابير التي يستسهل اللجوء إليها. وفي المقابل، تشير المصادر إلى أنّه إذا كان من حق السيد نصرالله انتقاد السعودية كما يشاء، تمامًا كما أنّ الحريري لا يفوّت فرصة إلا ويستغلّها لانتقاد الجمهورية الإسلامية وهذا حقّه، فإنّها تلفت إلى أنّ تصعيده غير المسبوق ضدّ المملكة بالتزامن مع الحملة الإيرانية عليها ليس محض صدفة، خصوصًا أنّ حرب تموز التي اتهم السعودية بالتورط فيها عمرها عشر سنوات، ما يطرح علامات استفهامٍ حول سبب انتظار كلّ هذا الوقت قبل توجيه هذه الاتهامات.

ولى زمن الحوار؟!

وفيما تلفت المصادر إلى أنّ انطلاق الحوار بين "التيار" و"الحزب" كان أصلاً مرتبطاً أيضًا بجو إيجابي كان سائدًا بين السعودية وإيران، تلاحظ أنّ المعطيات تغيّرت اليوم، ولم يعد التفاوض أقصى طموحات أيّ من العاصمتين، فإيران لم تعد راغبة بالحوار، في الوقت الراهن، مع الرياض بعد أن سعت إليه كثيراً، في حين أنّ الأخيرة لا تريد الدخول في أي مسار تفاوضي حول ملفات المنطقة العالقة، قبل الإنتهاء من الأزمة اليمنية، خصوصاً أنها تعتبر أن طهران قلبت الطاولة عليها في حديقتها الخلفية، وبالتالي يجب إعادة الإعتبار إلى مكانتها الإقليمية، لا سيما أن حليفتها الإستراتيجية، أي الولايات المتحدة الأميركية، لم تعط أي أهمية لموقفها من الإتفاق مع طهران، بل على العكس من ذلك اكتفت بالتطمينات الشكلية التي لا تقدم ولا تؤخر.

من وجهة نظر المصادر، فإنّ طهران تعتبر نفسها اليوم الطرف الأقوى على الساحة الإقليمية، فهي نجحت في كسر العزلة الدولية التي كانت تعاني منها على مدى سنوات طويلة، والعالم أصبح يعترف بأهمية دورها على صعيد معالجة القضايا العالقة، وبالتالي هي أصبحت متفرغة للصراع مع الأطراف الإقليمية التي حاربتها بكل قوة في الفترة السابقة، مقتنعة بأن واشنطن ستبقى داعمة لها.

من هذا المنطلق، تبرر هذه المصادر اللهجة القاسية التي يتعامل بها المسؤولون الإيرانيون مع السلطات السعودية، وعدم التردد في توجيه التهديدات والإتهامات، لا بل حتى تشبيه دورها بالدور الذي تؤديه إسرائيل في المنطقة، من دون الإلتفات إلى التداعيات التي قد تنجم عن ذلك، فهم عملياً لم يعد لديهم أي إهتمام بما قد تقوم به الرياض، التي تخوض مواجهات معهم على مختلف الأصعدة، ما يعني أنها هي من أعلنت الحرب لا العكس.

أساس كلّ الأزمات

إنطلاقاً من هذه الرؤية الإقليمية، تفسّر المصادر إنغماس الأفرقاء اللبنانيين في الصراع، فهي تعتبر أنهم لن يكونوا قادرين على الإبتعاد عنه بأي شكل من الأشكال، خصوصاً أنهم لا يستطيعون التغريد خارج الفلكين السعودي والإيراني، ولو رغبوا بذلك، والدليل هو تولي رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الرد على كل مواقف الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله التي تتناول المملكة، وتشدد على أن هذا الأمر ينعكس على مختلف الملفات التي يتشاركان إدارتها، ولا تستبعد أن يؤدي ذلك خلال وقت قريب إلى إنهيار طاولة الحوار التي تعقد بينهما برعاية رئيس المجلس النيابي نبيه بري.

بالإضافة إلى ذلك، تشدد هذه المصادر على أن هذا الصراع ذي الأبعاد المحلية والإقليمية هو أساس الأزمات العالقة، لا سيما على صعيد الإنتخابات الرئاسية، التي يرى تيار "المستقبل" أن هدف "حزب الله" من عرقلتها إسقاط إتفاق الطائف، الذي يعطي الرياض إمتيازات في لبنان، والذهاب نحو مؤتمر تأسيسي يعيد توزيع النفوذ بما يضمن الحصة الإيرانية التي يعبر عنها الحزب، في حين يعتبر الأخير أن التيار الأزرق يسطو على حقوق المسيحيين في البلاد، وبالتالي عليه إعادتها إلى أصحابها عبر إنتخاب حليفه رئيساً للجمهورية.

خرق لبناني مطلوب...

في ظل هذه الوقائع، قد يكون من الصعب الحديث عن حل للأزمة اللبنانية قبل معرفة المسار الذي ستسلكه العلاقات السعودية-الإيرانية، التي دخلت مساراً تبدو العودة فيه إلى الوراء صعبة جداً، لدرجة باتت طهران تفضل تعزيز الدور التركي على صعيد الساحة السنيّة في المنطقة على التفاهم في الرياض.

ويبقى الرهان على خرقٍ لبنانيٍ في مكانٍ ما الأمل الوحيد وسط هذه المعمعة، خرقٌ وحده اقتناع اللبنانيين بضرورة تحييد أنفسهم عن صراعات المنطقة يمكن أن يمهّد له في نهاية المطاف...