“القيادة المُستحَقّة أو البيت”... همسها العميد الذي يغادر مؤسّسته الأمّ بعد أيام في آذانٍ وفيّة. فَهم المتلقّي حينذاك أن شامل روكز لن يكون قائدًا للجيش لأن العماد ميشال عون لا يُعطَى ما يريد بسهولة، ولأن قائد فوج المغاوير الفذّ لا يرضى بتسويةٍ غير قانونيّة.

سُوِّي الأمر. ربّما أخطأ معرقلو الترقيات بظنّهم أن إسقاط ورقة شامل سيحرم عيني الجنرال النوم. لم يكن تزعزُع التسوية التي كانت سببًا لإرجاء الحوار وتلاشي إمكانية الدعوة الى جلسة حكوميّة ليثير بلبلةً لو لم ينبت غداة الجلسة الخامسة قرارٌ إداريٌّ بتعيين العقيد الركن مارون القبياتي على رأس فوج المغاوير خلفًا لروكز. ومع ذلك، فاجأت الرابية الجميع ببرودة أعصابها وهدوء تفاعلها. انتظر بعضهم سخطًا من الجنرال فلم يلقَه. بعضهم الآخر ما زال ينتظر ذاك السخط في تظاهرة الغد وأغلب الظنّ لن يجده هناك أيضًا على أبواب بعبدا التي قد يستعدّ قصرها لدعسةٍ كبيرة.

لا تململ... بل ريبة

ليس في الرابية تململٌ غداة تعيين القبياتي و”حرمان” روكز من ترقيةٍ مُستحقّة بشهادة الخصوم قبل الحلفاء. ليس في الرابية تململٌ كما توقّع “المُتّهمان” في محكمتها بعرقلة التسوية نكايةً بعون. ليس في الرابية ما يدعو الى الشكّ بأن التيار الوطني الحرّ سيقلب الطاولة على الجميع وسيدمّر الهيكل على رؤوس من فيه كرمى رتبة “لواء” ربّما روكز نفسُه لا يصبو اليها بهذه الطريقة. في تلك الكواليس ما يثير الريبة، ما يشي بأن أمرًا ما يُحضَّر بصمتٍ وقد لا تكون تظاهرة 11 تشرين الأول هي مسرح الإعلان عنه، بمعنى أنه قد يبقى طيّ الكتمان الى أجلٍ غير بعيد. في أوساط البرتقاليين أجواءٌ تقول ذلك. تقول الكثير ولا تقول شيئًا في آن. تلك الشكوك ترسم الطريق الى فرضيّتين لا ثالثة لهما: أولاهما مفادُها أن الرابية تشبه هذه الأيام بركانًا سينفجر قريبًا وستتناثر حممُه في الطابق الثالث في مجلس النواب بإعلان مقاطعةٍ برتقاليّة نهائيّة لا عودة عنها وبالتالي سقوط ما تبقّى من ملفّات ممجوجة يتقدّمها الملف الرئاسي، قبل أن تبلغ تلك الحممُ السراي الحكومي بإعلان مقاطعةٍ ثانية لا عودة عنها لكلّ الجلسات وبالتالي تصعيب مهمّة سلام. أما ثانيتهما فتذهب في اتجاهٍ معاكس وترقى بنظريّة أن العماد عون يعمل بواقعيّة ويشغّل براغماتيته وهو يعرف أن روكز سيترك فوج المغاوير عاجلاً أم آجلاً لصالح عميد جديد بعد انتهاء مخدوميّته، وعليه لا بدّ من تقبّل الأمر وتوظيفه لصالحه في أثمانٍ مقابلة يقبضها في مواقع أخرى كرئاسة الجمهورية مثلاً... وما المانع؟

“القبياتي من جماعتنا”

قد تصدق فرضيّة الرضى العوني عن القرار الإداري الروتيني على عتبة أيام من إحالة روكز الى التقاعد عندما يفهم قارئٌ في كتب البرتقاليين هذه الأيام أن مارون القبياتي هو رجلٌ مناسبٌ في المكان المناسب، لا بل أبعد من ذلك هو أقرب المقرّبين الى العميد روكز الذي يلتزم الصمت من دون أن يردعه ذلك عن الهمس في مسامع المقرّبين بأن القبيّاتي نال ما يستحقّه وهو الذي حفر في سجلات المؤسّسة تاريخًا وطنيًا مشرّفًا ذيّله بمعركة عبرا التي شكّلت نقطة تقدّمه على منصور زغيب على ما علمت “صدى البلد”. ويذهب بعض البرتقاليين أبعد من هذا الكلام المُلطَّف مؤثرين إرضاء النفس بعفويّةٍ شعبويّة تختصر المشهد في ثلاث كلمات: “القبياتي من جماعتنا”. واقعٌ يطمئنُ هؤلاء لكن ليس حدّ السير معه معصوبي الأعين لا تشكيكًا بمناقبيّته بقدر ما هو حذرٌ مما يسمّونه “تجربة جان قهوجي المُرّة” التي خذلت عون ودفعته الى استذكار ما قاله لأحد المقربين ذات يوم عندما سأله عن درجة وفاء قهوجي فأجابه: “أنا عيّنتُه”.

تجاوزوا عقدة القيادة...

تجاوز العونيّون عُقدة قيادة الجيش بعدما كوّنوا قناعةً جازمة بأن كلّ ما يفعله الآخرون إنما غايتُه نكائيّة لإحباط عون، وبأن التعيينات لن تحصل وورقة قهوجي لن تسقط طالما أن “الظروف الاستثنائيّة” التي انطلت على كلّ التمديدات السابقة لن تغصّ بعمادٍ آخر حتى لو كان ذلك على حساب عمداء منذ ذوي الكفاءة والاستحقاق. ذاك التجاوُز السلس غير المضمون في حال استمرار مسلسل إفشال الجنرال في كلّ الملفّات، يدفعهم الى التفكير أبعد من اليرزة، في ذاك المكان الذي لا يغادره الحلم البرتقالي والذي يؤمُّه غدًا ليطالب باستعادته من باب “الأحقيّة التمثيليّة”. لن يسقط اسمُ الجنرال من المعادلة الرئاسيّة لا من شفاه مناصريه ولا من شفاه الحلفاء وبعض المتردّدين الذين ما زالوا يرون فيه رئيسًا للجمهورية إن لم يكن بشخصه فبمن يزكّيه. كلامٌ يقود الى تساؤل بدأ يعنّ على بال بعض الكوادر كما القواعد من دون أن يجرؤوا على منحه سمة النور خوفًا من زجّ اسم شامل روكز في مزيدٍ من السيناريوهات وحرق الأوراق وهو ما يكرهه العميد كلّ الكره: لمَ لا يكون هو إذا كانت حظوظ الجنرال معدومة؟ لمَ لا يرشّحه عون؟ لمَ لا يفرضه ورقةً قويّة طالما أن وليد جنبلاط نفسه يؤيّد فكرة إنصافه ويكنّ له كلّ الاحترام الشخصي ويحاول في الآونة الأخيرة إصلاح ما تمّ إفسادُه تجاه عون ويصرّ على عدم إرساء أي تسويةٍ تستثنيه، لا بل يشير بالاسم الى روكز بلا هوادة؟

ورقة أخيرة

قد يقولها عون قريبًا: شامل مرشّحي. قد يلعب هذه الورقة الأخيرة التي لا تترك للمصطادين في الماء العكِر أيّ أحجية إضافيّة بعدما استنفدوا كلّ أسلحتهم في وجه الرابية. تلك المجاهرة التي تبقى في إطارها الفرضي تتردّد على ألسنة بعض البرتقاليين المقرّبين الذين يربطونها “بتغيّراتٍ ستفاجئ تحديدًا سامي الجميل وميشال سليمان اللذين عرقلا ترقية روكز وستجعلهما يندمان على مثل هذه الخطوة عندما يعيان بأن ما بلغه الرجل أكبر بكثير ممّا فوّته أو ما فوّتوه عليه. وأبعد من ذلك، سيعرفان خير معرفة بأنهما صنعا وجهًا آخر لقائد فوج المغاوير يوم أراداها نهاية لأسطورة ظنًا منهما أنهما بذلك سيسجلان هدفًا قاسيًا في مرمى عون. يخطئان مجددًا لأنها ليست النهاية، بل قد يُشكران على مساهمتهما غير المباشرة وغير البريئة في استنباط بداية جديدة لأمرٍ كبيرٍ ولحالةٍ ربما لن تتكرر لأن التسويات قد تولّد جان قهوجي ثانيًا وميشال سليمان ثانيًا لكنها لا تولّد ميشال عون ثانيًا”.

تقيّأت نفسه...

الى أن يقولها عون إن قرّر قولها، الأكيد أن الجوّ العام في الرابية إزاء تعيين القبياتي هو جوٌّ مريحٌ للغاية خصوصًا بعدما جالسه أكثر من ملتزمٍ تيّاري ونقل صورةً مشجّعة الى من حوله عن عكسريّ يرتاح له روكز قبل سواه وهو الذي خدم معه وحفظ مبادئه التي هي مبادئ المؤسسة العسكريّة في الأساس. ومع ذلك، بصمتٍ مطبِقٍ يتعامل العميد شامل مع كلّ ما يُقال ويُصاغ ويُحاك من حوله. على قاعدة “مش بعيني” يتعاطى الرجل في فوضى البازارات السياسيّة التي تستولدها صالونات التحليل السياسي وما أكثرها. فإن ألمح الى أنه لا يريد المنصب فُهِم وكأنه يحاول استعطاف الناس، وإن ألمح الى أنه يريده فُسِّر ذلك باللهث وراء القيادة، لذا ارتأى أن الصمت هو الوسيلة المُثلى بعدما تقيّأت نفسه “القيل والقال”. الرجل واضحٌ في صمته. يقول أكثر بصمته. يفهم عليه كثيرون من صمته. يفهمون أن أي ترقيةٍ غير قانونيةٍ لا تعنيه بقدر ما يعنيه الاهتمام شرعيًا بحديقة منزله... أو ربّما في حسابات الجنرال بحديقة منزل القصر الأوّل.