إلى أين تتجه الأوضاع في ​فلسطين​ المحتلة، على ضوء المواجهات المشتعلة بين الجماهير الفلسطينية من جهة، وقوات الاحتلال والمستوطنين من جهة ثانية؟

هل ما يجري يؤشر إلى بدايات انتفاضة ثالثة؟

وما السمات الجديدة التي تتسم بها العمليات والمواجهات ضد جنود العدو والمتشددين الصهاينة، رداً على اعتداءاتهم وجرائمهم وإرهابهم المتمادي ضد الشعب الفلسطيني ومقدساته.

الواضح أن الغضب الشعبي الفلسطيني تفجر على نطاق واسع في الضفة الغربية والقدس المحتلة مسقطاً في طريقه كل رهانات المحتل على يأس الفلسطينيين واستسلامهم إلى قدر الاحتلال في ظل ظروف عربية ودولية تعمل لمصلحة الكيان الصهيوني الذي يحسن الاستفادة منها، لكنه أوغل في رهانه على عدم تحرك الشعب، كما أطاح الغضب الشعبي الفلسطيني بالتنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية وأجهزة الأمن الإسرائيلية التي وقفت مذهولة أمام ما يجري وعاجزة عن فعل أي شيء في حين كشف الغضب الشعبي تقاعس وتخاذل السلطة الفلسطينية وعجز فصائل المقاومة الفلسطينية عن استئناف حمل راية النضال التحرري ضد الاحتلال، حيث لم ينتظر الشبان الفلسطينيون أن تتوحد الفصائل، ولا أن تقدم السلطة على الخروج من نفق اتفاق أوسلو المشؤوم، والتنسيق الأمني مع الاحتلال، وقرروا حمل راية المقاومة لمواجهة محتل لا يفهم سوى لغة القوة، وأثبت الشبان الفلسطينيون بذلك أنه لا يمكن لأحد مصادرة النضال الوطني ضد الاحتلال.. ولا يمكن للعدو أن يبقى مستمراً في احتلاله وإرهابه دون أن يواجه مقاومة وغضب الشعب، وأن يدفع ثمن جرائمه واعتداءاته.

فعلى وقع العمليات الفدائية والمواجهات مع جنود الاحتلال والمستوطنين اشتعلت الضفة الغربية والقدس المحتلة في مشهد يذكر ببدايات اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 إثر تدنيس رئيس وزراء العدو السابق أرئيل شارون مع جنوده ومستوطنيه المسجد الأقصى في خطوة استفزت الشعب العربي الفلسطيني وقواه الوطنية الحية.

وفي خلال أيام معدودة وعلى إثر تمادي جنود العدو والمتطرفين الصهاينة في اعتداءاتهم المتكررة على المسجد الأقصى والمرابطين بداخله، وانكشاف المخطط الصهيوني الهادف إلى تقسيم المسجد الأقصى، في سياق خطة لتهويده وبناء الهيكل الثالث، نفذ عدد من الشبان الفلسطينيين سلسلة عمليات جريئة استهدفت جنود العدو والمستوطنين في القدس المحتلة، ونابلس، وتمكنوا من قتل عدد من الجنود الصهاينة والمستوطنين وجرح آخرين واستشهاد الشباب الذين نفذوا هذه العمليات.

وبات من الواضح أنه وإثر هذه العمليات اشتعلت الضفة والقدس في وجه الاحتلال الذي أوغل في قمعه وإرهابه وأقدم على تدمير منازل الشهداء منفذي العمليات إلى جانب اتخاذه سلسلة إجراءات قمعية تعسفية في محاولة للحد من المواجهات، والحيلولة دون حصول عمليات فدائية جديدة.

عوامل تدفع نحو انتفاضة ثالثة:

على أن هذه المواجهات والعمليات مرشحة للتصاعد، والتحول إلى انتفاضة ثالثة، انطلاقاً من وجود عوامل تدفع الشباب الفلسطيني إلى هذه الانتفاضة، وأبرز هذه العوامل:

1- تصاعد الهجوم الاستيطاني التهويدي في القدس والضفة الغربية على نحو خطير يهدد بتغيير هوية القدس والمسجد الأقصى.

2- إيغال سلطات الاحتلال في إجراءاتها القمعية والإرهابية والاعتقالات التعسفية.

3- وصول الشعب الفلسطيني إلى مرحلة اليأس التام من أي رهان على تحقيق تسوية تقود إلى إقامة دولة فلسطينية.

4- وصول الشعب الفلسطيني إلى قناعة بأن إسرائيل لا تريد من اتفاق أوسلو والمفاوضات المجمدة أصلاً سوى غطاءً لاستكمال مخططها الاستيطاني التهويدي لفرض أمر واقع وتصفية القضية الفلسطينية.

5- سقوط خيار التفاوض وانكشاف دور السلطة الفلسسطينية، وعجزها عن الخروج من فخ أوسلو، أوصل الشعب الفلسطيني إلى نتيجة مفادها أنه لا أمل يرتجى من الانتظار، ولا بد من العودة إلى المقاومة والانتفاضة.

سمات جديدة تطبع العمليات الفدائية والمواجهات:

من يراقب ويتابع العمليات الفدائية الجريئة التي نفذها الشبان الفلسطينيون، وكذلك أساليب المواجهة الشعبية المبتكرة، يلحظ أنها تتسم بسمات جديدة لا تشبه الانتفاضة الأولى، أو الثانية، وهذه السمات تتميز بابتداع الشباب أساليب جديدة في مقاومة ومواجهة الاحتلال، وهذه السمات تمظهرت بالآتي:

السمة الأولى: أن العمليات التي نفذت في القدس والضفة لا صلة بين منفذيها، ولا رابط يرشد المحتل وأجهزته الأمنية إلى هوية الجهات المخططة التي تقف وراء المنفذين، وهذا يعكس مستوى عاليا من السرية في مقاومة الاحتلال، وهو أسلوب أصبح ضرورياً بعدما بات أي عمل مقاوم مراقبا من قبل الاحتلال وأجهزة أمن السلطة المتعاونة مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي تربطها بها وشائج وروابط وعلاقات توطدت على مدى السنوات التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو الذي أنتج التنسيق الأمني الهادف إلى ملاحقة واعتقال كوادر المقاومة الساعين إلى تنفيذ علميات ضد الاحتلال.

السمة الثانية: تميز العمليات بالدقة في التنفيذ وتجاوز كل العوائق الأمنية، وكذلك القدرة على تحقيق الهدف المراد بعد النجاح في اختيار المكان والتوقيت وهو ما أمن نجاح المنفذين في بلوغ هدفهم.

السمة الثالثة: النجاح في الالتفاف على التنسيق الأمني مع الاحتلال، عبر بناء خلايا مقاومة جديدة ينتمي إليها جبل جديد من الشباب بعيداً عن أعين أجهزة السلطة الفلسطينية والإسرائيلية، الأمر الذي يفسر حالة الارتباك والذهول والقلق لدى هذه الأجهزة التي باتت تخاف من أن تكون لهذه العمليات صفة الديمومة.

السمة الرابعة: ابتداع أسلوب جديد لمنع المستوطنين من تكرار عمليات حرق العائلات الفلسطينية في بيوتها حيث جعل الشباب الفلسطينيون من أجسادهم دروعا واقية تحمي بيوت الشهداء والمواطنين من انتقام جنود الاحتلال والمستوطنين، وتمكنوا بفعل هذا الأسلوب من منع وصول المستوطنين إلى عائلة الهريني، وحالوا دون تكرار حادثة حرق عائلة الدوابشة.وهذا يؤشر إلى أننا أمام أسلوب جديد في المقاومة الشعبية والمسلحة، يأخذ بالاعتبار الواقع الراهن وتجارب الماضي بما يمكن المقاومة الوليدة من توجيه ضربات موجعة للعدو، ويجعلها قادرة على الاستمرار في توليد المزيد من رد الفعل الشعبي المنتفض ضد الاحتلال واستمرار التنسيق الأمني معه من ناحية، واستقطاب الشباب المتحمس للانخراط في المقاومة من ناحية ثانية.

ومثل هذا الأسلوب يوفر بيئة مقاومة متماسكة سرية ومستندة إلى بيئة شعبية تدعمها وتؤيدها مما يخلق دينامية جديدة يؤدي نجاحها وتطورها إلى أمرين:

الأمر الأول: تجذر هذه المقاومة الجديدة وتمكنها مع الوقت من بناء ركائز وبنى متينة في داخل فلسطين المحتلة مستفيدة من تجارب الماضي.

الأمر الثاني: تحفيز حركات المقاومة التي فوجئت بهذا التطور في المقاومة الشعبية على الارتقاء في أدائها وملاقاتها عبر تفعيل دورها في مقاومة الاحتلال، وعدم انتظار تحقيق مصالحة وطنية، أو وحدة وطنية، لأن الوحدة الوطنية الحقيقية إنما تنشأ في معترك النضال ضد الاحتلال.