ككل عام، يحل الاستقلال على لبنان "ضيفاً" تتفاوت نسبة الترحيب فيه وفق احوال هذا البلد. فإذا كانت الاوضاع مستقرة سياسياً وامنياً، تقام الاحتفالات والعرض العسكري في حضور رئيس الجمهورية واركان الدولة ثم يقام حفل استقبال في القصر الجمهوري لتقبّل التهاني. اما خلال الاوضاع غير المستقرة، سياسياً وامنياً، فيغيب البعض عن الاحتفالات ويكتفى بعرض عسكري رمزي. وفي الحال التي نعيشها حالياً، فقد تم الغاء كل مظاهر الاحتفالات وتم الاكتفاء فقط بالتعطيل يوم واحد، وهو الامر الوحيد الذي يسير بانتظام في لبنان (اي التعطيل) منذ فترة غير قصيرة، وفي ظل غياب رئيس للجمهورية والشلل الحكومي والنيابي.

عاطفياً، يكتسب المعنى اهمية كبيرة وخاصة بالنسبة الى اللبنانيين، فهو جسّد سابقاً صورة زاهية عن قدراتهم عند توحدهم، وكانوا حينها اقوى من "الربيع العربي" الذي شهدناه في السنوات الفائتة واثبتوا بالفعل ان التعددية الدينية نعمة يمكن الاعتماد عليها كعنصر للجمع وليس للتفرقة.

انما واقعياً، فقد الاستقلال لدى اللبنانيين معناه سنة بعد اخرى. وكي لا نغوص في الماضي ونسرد التاريخ المعروف للجميع، فإنه منذ العام 2005 (تاريخ انسحاب القوات السورية)، لم يهنأ لبنان باستقلال حقيقي، فالانقسامات على الصعد السياسية اكبر من اي وقت مضى، وبات اللبنانيون "يتقاتلون" حتى على ما يمكن ان يوحدهم كالقضايا الاجتماعية والحياتية والاقتصادية والبيئية، فيما الدستور تحول الى كرة "يتسلى" فيها الجميع ويركلونها من موقع الى آخر تحت ستار الحفاظ عليها.

ولكن، على الرغم من ذلك، يقول البعض ان استقلال لبنان غيّر وجه منطقة الشرق الاوسط، فهل في الامر مبالغة ام لعب على الكلام؟ في الحقيقة، غيّر لبنان بالفعل وجه المنطقة، فمنذ استقلاله تم التحضير ليكون هذا البلد نقطة ساخنة يمكن الاستفادة منها لوضع الاهداف المنشودة للمنطقة، وموقعه الجغرافي المثالي (بين سوريا واسرائيل) جعل منه مكاناً استراتيجياً نادراً لانطلاق المخططات الكبرى. اولاً تمّت الاستفادة من لبنان كموقع مهم للفلسطينيين الذين نزحوا من ارضهم بفعل الاحتلال الاسرائيلي والمجازر التي ارتكبت هناك، وسرعان ما لعب الخارج على الوتر الطائفي ليشتعل في لبنان، من خلالهم، حرباً، لتأتي بعدها اسرائيل وتحتل ارضاً لبنانية في مقومات فرض دولة الامر الواقع. واستفاد السوريون ايضاً من لبنان، فغنموا بالسيطرة عليه وفق ضوء اخضر اقليمي-دولي وكمفاكأة على المشاركة في حروب دولية (الحرب على العراق)، ليعود لبنان الى الساحة مرة اخرى عبر استقباله اكثر من نصف عدد سكانه من لاجئين سوريين بفعل الحرب التي تشهدها سوريا.

لم يعرف لبنان ان يكون سويسرا الشرق، فسويسرا الغرب حافظت على استقلالها وكينونتها رغم اندلاع الحرب العالمية، ورغم موقعها الجغرافي الحساس (تقع على حدود فرنسا والمانيا وايطاليا) واستقبالها للاجئين من مختلف الدول المجاورة.

نعم، غيّر لبنان وجه المنطقة لانه كان نقطة ارتكاز يعوّل عليها الخارج في كل مشاريعه وخططه، وحتى يومنا هذا، لا يزال محطّة مهمّة رغم مساحته الجغرافية الصغيرة ومشاكله التي لا تعد ولا تحصى، فتحول في الآونة الاخيرة الى البلد الاكثر امناً في المنطقة، وبفعل ارهاب "داعش" اصبح امنه موازياً لامن الدول الاوروبية، وهل يمكن تخيّل ما كان سيؤول اليه مجرى الاحداث لو لم يكن لبنان على الخارطة؟ وها هو مدعو مرة جديدة الى ان يكون ساحة انقاذية للآخرين، فسوريا تتطلع اليه للمساعدة في الحرب، والغرب يتطلع اليه ايضاً ليشكّل محطة لملايين النازحين السوريين لمنعهم من الوصول الى اوروبا واميركا ولقطع الطريق على "داعش" والارهابيين الذين يحاولون العبور او الفرار من سوريا.

صحيح ان معنى الاستقلال يفتقده اللبنانيون منذ نيلهم هذا له، ولكن يمكنهم الافتخار بأن لبنان ومنذ ان ابصر النور تحت اسم الجمهورية اللبنانية، تحول الى مساحة الزامية للخارج، وعانى الكثير من جراء ذلك ولكنه تحول اليوم الى حجر الاساس في الصورة الجديدة التي ستظهر عليها المنطقة، لا يمكن تجاوزها، وهو باق ما بقي الشرق الاوسط، ولكن هل هذا الوضع نعمة ام نقمة؟