انعطافة دولية متدرجة بدأت تُترجم حول سوريا، انطلاقاً من القلق الاوروبي تحديداً جراء تمدد الارهاب. حوادث باريس شكلت دافعاً للتقرب من الروس باعتبارهم القوّة التي استلمت زمام أمور المشرق العربي. بدا ذلك على الاقل من خلال المناورات العسكرية الروسية البحرية او المعركة الجوية المتصاعدة، عدا عن الحراك السياسي الذي تقوم به موسكو.

عندما اعلنت ​فرنسا​ تحالفها مع الروس ضد الارهاب، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعطي التعليمات لضباطه بالقول: "تعاملوا مع حاملة الطائرات الفرنسية في البحر الابيض المتوسط وطاقمها العسكري كحلفاء". هنا اتضح ان بوتين يتصرف كقائد تخضع له منطقة العمليات دون غيره من قوات دولية، ما يعني ان لا قبول بوجود قوات عسكرية في هذه المنطقة الا بموافقة موسكو.

ليست هي وصاية ولا احتلال ولا فرض نفوذ او تقاسم دولي، بل هي مصالح فرضت وجود الروس هنا لقتال الارهاب. خلف موسكو يقف الصينيون تمويلاً مالياً مفتوحاً، لكل دوره، ويقف الإيرانيون في حلف استراتيجي مع روسيا والصين كما تحدث بصراحة مستشار مرشد الجمهورية الإيرانية علي اكبر ولايتي منذ ايام. ومن هنا تأتي زيارة بوتين الى طهران للقاء قياداتها في اطار التنسيق للمرحلة المقبلة، قبل زيارة قيادات إيرانية مرتقبة الى بكين.

لا قدرة للأميركيين على العرقلة، وهناك من تحدث عن تنسيق روسي-أميركي "تحت الطاولة". هذه النظرية تنطلق من ارتياح واشنطن نسبياً لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع طهران رغم كل "الحرتقات الشكلية"، وهواجس الغرب من تمدد "داعش".

كانت المصلحة الاميركية تقضي سابقاً بالتجاوب مع عروض الخليجيين والأوروبيين بإدخال "الجهاديين" الى سوريا. كان الهدف ضرب الجيش السوري وانهاك "محور المقاومة". كان الأميركيون وحلفاؤهم يتفرجون على تطبيق نظرية "التخادم" او الانتفاع من وجود ارهابيين يقومون بضرب خصومهم. ترجمة تلك المعادلة قد يكون هو الدافع الاساسي لطهران للقبول بالاتفاق النووي بعد إرباك حلفائها في سوريا وإضعاف عناصرها وزيادة الضغوط المالية والمعنوية عليها.

الان وصلت واشنطن الى قناعة بوجوب القضاء على الارهاب. يعزز تلك القناعة ما يحصل في اوروبا، لان تكرار تجربة افغانستان مع "الجهاديين" سيشكل كارثة عملية نتيجة وجود بيئة حاضنة للإرهاب وفاعلة في كل الدول الغربية. ما يحدث في فرنسا وبلجيكا والهواجس في ايطاليا وألمانيا يؤكد ذلك.

الواقع فرض ائتلاف الضرورة بين واشنطن وموسكو عملياً، ليُترجم علنا بتحالفات موسعة يقودها الروس على الارض بالربط والتنسيق بين الغرب وطهران وبكين. ما يعني ان سوريا "فالقية" كما يصفها احد المفكرين العرب كمال خلف الطويل، وزلزالها عبرت تردداته حدود المنطقة، فتوسعت مساحات النزاع والقلق.

طلبت موسكو من الأميركيين الضغط على حلفائهم لإقفال الحدود ومنع إمداد الإرهابيين بالمال والسلاح والتجهيز، لحصارهم ضمن الحدود السورية بغية التخلص منهم، وقدمت دلائل ومشاهد لعمليات الدعم والاسناد، هي اتهمت تركيا والخليجيين ضمنياً، ثم استهدفت قوافل النفط التابعة لتنظيم "داعش" التي يستفيد منها الاتراك عملياً.

الهواجس في انقره محصورة بالأكراد على حدود تركيا. لا طمأنة أميركية ولا روسية لأنقرة حول مستقبلهم. عدا عن اهتمام الحكومة التركية بالتركمان الذين تتخذهم ذريعة لتأمين منطقة حدودية "آمنة". اما الخليجيون فيشعرون انهم لم يحققوا شيئا ملموسا في سوريا. من هنا يأتي إصرارهم على "انتقال سياسي" او الاستمرار بالمعارك. لا اتفاق بعد ولا وضوح. من جهة توحي موسكو بمسايرتهم سياسيا، ومن جهة ثانية بعدم الاكتراث بهم عسكرياً. رغم مغازلة الروس لمسلحيهم المقاتلين على الارض السورية لضمّهم الى الحرب ضد الارهاب على قاعدة الشراكة مع الجيش السوري وتغيير بوصلة النزاع.

بعد اكثر من اربع سنوات من الحرب المفتوحة على الجبهات كافة، لا يمكن منطقيا للجيش السوري ان ينشر قوات برية فاعلة على مساحة الاراضي السورية لمواكبة الضربات الروسية. القضية تحتاج لمئات الآلاف من الجنود المجهّزين. فكيف لجيش يقاتل بشكل متواصل منذ سنوات مضت من دون توقف؟!

في دمشق تقوم السلطات الحكومية بإستدعاء بعض الاحتياط من الشباب ضمن أعمار محددة، والمطلوبين للخدمة العسكرية، والغاية التحضير العسكري للمرحلة الاخيرة من الحرب ولمواكبة التقدم الروسي كما تتحدث المعلومات. خصوصا ان الخليجيين والأتراك يتذرعون بوجود قوات إيرانية او مقاتلي "حزب الله" في سوريا لعدم التعاون مع الولايات المتحدة في التزاماتها مع موسكو.

انها مرحلة فاصلة لن يتراجع الروس فيها، والدليل ما ستشهده الأسابيع المقبلة من عمليات نوعية، بمباركة دولية شاملة تبدأ من باريس مرورا بكل عواصم اوروبا المعنية، وصولا الى الولايات المتحدة الاميركية التي بدأت الأجواء فيها تتبدل، والدليل ما قاله سيناتور فرجينيا ريتشارد بلاك منذ ايام في رسالته للرئيس السوري بشار الاسد.

في السياسة استعداد في دمشق لكل السيناريوهات. الرياض تجهّز وفدا تفاوضيا من المعارضة التي ستجمعها. بعض المعارضين يضع الخطوة السعودية فقط في خانة "سحب الذرائع".

فماذا عن مؤتمر فيينا؟ هل سيعيد انتاج نفس وجوه المعارضة؟ يبدو الامر كذلك. المتغيّر الاساسي ان نظرة العواصم الى سوريا في الأشهر الاخيرة من عام 2015، تختلف عن سوريا 2012 و 2013 و 2014. لم تكن على الاقل باريس مهدّدة من "دواعش" حلب. لم تكن روسيا في قلب الميدان ترجح كفة الميزان. كان الجيش السوري يتراجع، بينما كل جبهاته تشهد على تقدمه الآن.

هنا تبدو المفارقات، معطوفة على ما تريده واشنطن كأولوية تنطلق من فرض التفاوض مع اسرائيل. لا يُعقل بالنسبة اليها بعد كل تلك المتغيرات ان تعود السياسات الاستراتيجية الى سابق عهدها. لذلك يتحرك وزير الخارجية جون كيري بين تل أبيب وعواصم اخرى. هذا الملف الوحيد الذي بقي عائقاً امام إدارة باراك أوباما بعد إنجازات تاريخية في الملف الإيراني والعلاقات مع كوبا.

الأشهر المقبلة حاسمة. انها "سوريا الفالقية" التي تغيّر قواعد اللعبة على مستوى العالم، من تصدّر روسيا الى قلق أوروبا الى أولويات الأميركيين. فلننتظر.