يشبه سليمان فرنجية هذه الأيام طائرًا أمَّته الحرية ومعها الروح رغم أنه لم يكن سجين تكتّل التغيير والإصلاح الذي اختاره انتماءً وولاءً وحِلفًا طوعًا ولم تفرضه عليه شبكة التحالفات والثوابت والقناعات، كما ولن يكون أخذُ قسطٍ منه “مكرًا” بعدما أمعن التكتّل في منحه الكثير من بطاقات الخروج... ومع ذلك بقي فرنجية في الظاهر متمسكًا برئاسة عون وأحقيّته في حلمٍ بدأ يشيب في الرابية ويُبرعم في بنشعي.

ليست الضوضاء الرئاسيّة جديدة على بنشعي ولا اسمُ بكّها “New Entry” في بورصة الأسماء المرشّحة التي منحها السياسيّون والمحللون والمقدّرون والجمهور بطاقة العضوية الدائمة. تلك الضوضاء لن تكون حتمًا الأخيرة إلا إذا اصطفته تسويةٌ تنهل من تلك التي أطلقها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خطوطها العريضة وتختمر في أجواء باريسيّة باردة في إحدى غرف استقبال الرئيس سعد الحريري.

لمَ عاد اسمُه اليوم؟

ما الذي أعاد اسمُ فرنجية الى الواجهة في هذا التوقيت بالذات؟ يكمن الجواب الفرضي في ما يدور في الكواليس الفرنسيّة المُطعَّمة بأهل البيت الوافدين الى لقاء سيّد بيت الوسط “المغترب”، ربطًا بالتطوّرات التشريعيّة واطّراد المطالب “المسيحية” وصورة التحالفات المستقبلية الجديدة والتغيرات في المنطقة. أولاً، سرّع التكاتف العوني-القواتي وتيرة الأحداث خصوصًا بعدما أثبت قدرته على “تهبيش” حقوقٍ يصرّ عليها الطرفان مقابل التعطيل في حال رفضها، وليس قانون استعادة الجنسيّة سوى خير مثال. وبما أن العين أصبحت على قانون الانتخاب الذي لن يناسب “المستقبل” والمختارة في صيغه شتّى ركونًا الى عنصريْ طبيعته والتوقيت، كان لا بدّ من البحث عن رئيسٍ يستوفي جزءًا من سلسلة المواصفات التي وضعها متحاورو البرلمان وعين التينة، وبالتالي فرز رئيس جمهورية مقبول من الجميع قبل فرز برلمان جديد وهو مطلب الرابية الأساس. ثانيًا، تنشط الغرف الباريسيّة التي يقطنها الرئيس سعد الحريري هذه الأيام على أكثر من خطّ، ولعلّ تسريبة لقاء الحريري-فرنجية ليست بريئة، لا بل تصبّ في خانة تسويةٍ قد يكون الرجل بطلَها. فرضية تتساوى مع تلك التي تجعل من كلّ هذا الكلام مجرّد رمي بالونات اختبار لرفع أسهم عون أو من يختاره. ثالثًا، تتوالى الضغوط الغربيّة على لبنان لانتخاب رئيس، وإذا كان الفاتيكان لا ينفكّ يحارب من أجل إنهاء الشغور استجابةً لتمنيّات بكركي العاملة على أكثر من خطّ والمُسلِّمة أخيرًا بالدور الخارجي بعد استعصاء الاتفاق الداخلي، فإن فرنسا تضطلع بالجزء الثاني رغم أن همومها الأمنية باتت تتجاوز أي ملفّ آخر يندرج في سياق أجندتها الخارجية وتحديدًا الشرق أوسطية التي يشكل لبنان بوابة عبورها الجوهرية.

سلوكيات رئاسيّة

كلّ تلك العناصر يُضاف اليها عنصر “القبول المُعمَّم” الذي يتسلّح به فرنجية، من دون أن يلغي ذلك حقيقة أن بعض الأصوات الداخلية ستعترض على مثل هذا الخيار وهو ما برز أمس تحديدًا بالتزامن مع لقاء الحريري-جنبلاط، حيث بدأت بشائر “الأنفاس المتقطّعة” داخل 14 آذار تبدي تململها العلني إزاء “سلوكيات” الحريري وآخرها إمكانية تزكية فرنجية لخلافة الشغور بعد ثمانية عشر شهرًا. يجيد فرنجية التصرّف هذه الأيام، لا بل يتبنى سلوكيات رئاسيّةٍ بعدما حفظ ما كتبه المتحاورون على الورق من مواصفاتٍ مطلوبة وأهمها أن يكون مقبولاً من جميع اللبنانيين خارج مظلّة مفهوم “التوافقي” الباهتة والانفلاشيّة والمرفوضة مسيحيًا. فما الذي سيدفع فرنجية للقاء الحريري في باريس؟ وما الذي سيدفع زعيمًا مخضرمًا الى زيارة شابٍ كتائبي وافدٍ الى رئاسة الكتائب بقوّة الضرب على وتر التمايز الوزاري والتشريعي؟ وما الذي سيدفع سليمان طوني فرنجية الى الصفح “سياسيًا” عن رجل معراب وطيّ صفحة تاريخية مؤلمة حدّ اعترافه باحترام انتخابه رئيسًا (جعجع) ولكن من دون أن يمنحه صوته؟ ولمَ سيكون “الرئيس المطلوب” في نظره “ضامنًا” لا “جامعًا”؟

عكس الريح البرتقالية

لفرنجية حساباتُه المتنصّلة من “الهوى الجماعي” للتكتل التغييري والإصلاحي، وهو ما واظب الرجل على إظهاره في الآونة الأخيرة من خلال خروجه مراتٍ عدة من العباءة البرتقاليّة في قراراتٍ مصيريّة كالتمديدات الأربعة المتعاقبة (تمديدان للبرلمان وتمديدان لقهوجي)، ناهيك عن التمديدات الأمنية التي باركها فرنجية عكس عون، وصولاً الى قرار الجنرال مقاطعة مجلس النواب وعدم العودة إلا بشروط محددة مقابل ليونةٍ مطلقة من قبل فرنجية. لا يعني ذاك التمايز -على ما يؤكد فرنجية نفسه- الذهاب عكس الريح البرتقالية بحيث يبقى عون مرشّحه الأول بلا مهادنة. وإذا كان تمايز الكتائب باهتًا وبلا ذي صخبٍ في مواضع عدة، فإن التفلّت “المَردي” له تبعاته ووقعه، خصوصًا أن فرنجية حليف الرئيس السوري بشار الأسد المُعلَن بلا زحزحة، ناهيك عن كونه الرجل الأكثر سلاسةً على معدة حزب الله والأكثر براغماتيّةً بالنسبة الى برّي وأجنداته، وهو ما لا يستسيغه بعض أبناء 14 آذار لا سيّما أن عودة اسمه الى الأضواء يتزامن مع تغيّراتٍ شبه جذريةٍ في الساحة السورية يبدو أنها ستصبّ في خانة النظام السوري لا بل أبعد من ذلك في صالح بقاء الرئيس بشار الأسد بمباركةٍ دولية صريحة.

محاولة حرق

قد يقول قارئٌ إن الطبخة الرئاسيّة ما زالت بعيدة من الديار اللبناني وإنّ زجّ سليمان فرنجية في هذا الصخب في الأيام القليلة الفائتة ما هو إلا محاولة حرق رابحة لصالح عون، بيد أن ذلك لا يعني عدم جديّة تقدّم البحث في الشأن الرئاسي أو حتى باسم فرنجية في الكواليس الداخلية والخارجية. ولكن ما موقف الرابية من كلّ ذلك؟ حتمًا لا يبني الجنرال على فرضيات ولا هو في صدد إظهار نفسه في هيئة مُعطِّل الاستحقاق من أجل المتعة الشخصيّة أو لغاياتٍ “مازوشيّة”. لا يخفي بعض المقرّبين أن اسم فرنجية بقدر ما سيكون منصفًا لعون سيكون مُحرجَا له. فمن جهةٍ هو الرجل الذي تنطبق عليه مواصفاتٌ جمّة من تلك التي يشترطها المتحاورون وعلى رأسهم عون، ومن جهةٍ أخرى لا يناسب عون أن تصله ثمار التسوية ناضجة على طبقٍ جاهز لا يكون شريكًا في صنعه، كما لا يناسبه استبعاد خيار العميد المتقاعد شامل روكز نهائيًا من المعادلة وهو المستحقّة قدماه أيضًا أن تطآ أرض بعبدا. وعليه، قد لا يكون موقف الرابية المحسوب والمُعتبَر سهلاً متى وصل الى أذني الجنرال همسٌ جدّي يقول: هي مرحلة سليمان بك.

هو الحلّ؟

بعيدًا من “أضحوكة” الرئيس التوافقي التي اقتنع الجميع بمن فيهم المناورون بأنها لن تصمد، بات فرنجية على ما يبدو أكثر قناعةً بأن النظرية القائلة إنها ليست مرحلته ساقطة وبأنه رجل كلّ المراحل. وعليه، تعمل بعض خلايا المردة بصمتٍ على توسيع رقعة انتشارها خارج أسوار زغرتا بما يسدّ في زعيمها ثغرة “سعة التمثيل” وانفلاشية جغرافيّته، وذلك من خلال التجهيز لافتتاح بيوت جديدة للمردة في مناطق لم تكن في دائرة التخطيط قريب المدى. تلك الانفلاشيّة تتجاوز حدود الوطن الى دولٍ يُتدَاول اسمُ فرنجية في كواليسها باطّراد في الآونة الأخيرة وعلى رأسها فرنسا التي كتب منذ فترة غير بعيدة أحد أبرز صحافييها ريشارد لابيفيير مقالاً مذيّلاً بعنوان “سليمان فرنجية الحلّ”، ليتزامن ذلك مع ما علمته “​صدى البلد​” عن إصرار سفير فرنسي سابق لدى لبنان على تأدية دورٍ إيجابي لصالح تبني خيار فرنجية ودعمه رئاسيًا بعدما استطلع عنه كثيرًا وسمع آراء عدة يصبّ معظمها في خانة امتداح الرجل الذي لا يُزعِج أيًّا من دول القرار إقليميًا وعالميًا.

إذا حان الوقت...

أهو صلبُ تسوية نصرالله؟ أفرنجية هو صلبُها أم أن مواصفاتِه هي التي جعلته صلبَها؟ قد يتبنى “المستقبل” بسهولة رغم الأصوات المعترضة على هُزل تمثيلها ودورها داخل 14 آذار المتداعية، وقد يبادر العماد عون بالمثل بالاتفاق مع جعجع مقابل إنصافهما برلمانياً بالقانون المطلوب قبل الرئاسة في حساباتهما ومنح ورقة قيادة الجيش للأول. أما بالنسبة الى جنبلاط فلا حاجة الى منحه ملخّصًا عن فرنجية وهو المواظب على مغازلته حدّ وصفه بـ”العاقل”... قد يصيب “البكّ” مجددًا فتُسنَد اليه مهمتان: إعلان الخبر السعيد وكفكفة دموع المكسور خاطرهم والحردانين... كلّ ذلك قد يحصل متى ثبُت أن ما يُقال ليس مجرّد جسّ نبض مصدره 8 آذار انتصارًا لورقة عون... هذا إذا كان وقت الرئيس الجديد، أيّ رئيس، قد حان فعلاً.