بعد الإعلان عن إسقاط الطائرة العسكرية الروسية من الجانب التركي، بدأت الأسئلة تطرح، على الساحتين الإقليمية والدولية، حول حجم الرد المتوقع، خصوصاً بعد أن أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن هذه الحادثة سيكون لها عواقب وخيمة على العلاقات المشتركة بين البلدين.

من هذا المنطلق، ينبغي التطرق إلى مجمل هذه العلاقات المتداخلة إلى حد بعيد، لا سيما أنها تتعارض بشكل كبير على المستوى السياسي، لكنها تتلاقى في الإقتصاد والتجارة، الأمر الذي لا يمكن إهماله بأي شكل من الأشكال.

بالإضافة إلى ذلك، عند البحث في مجالات الصراع الروسي التركي المحتملة، خصوصاً على المستوى العسكري، يجب التذكير دائماً بأن أنقرة عضو فاعل في حلف شمال الأطلسي، ما يعني أن أي مواجهة بين الجانبين لن تقتصر عليهما فقط، ما يرجح فرضية الحرب بالوكالة على الأرض السورية، خصوصاً أن الأخيرة قائمة منذ بداية الحرب في العام 2011.

في هذا السياق، تم التوقيع مؤخراً على إتفاقية بين الجانبين لبناء مفاعلات نووية في تركيا تبلغ قيمتها نحو 20 مليار دولار، بالإضافة إلى ذلك تعتبر أنقرة من أهم مستوردي الغاز الطبيعي من موسكو، بما يقارب نسبة 45% من كمية الغاز التركي المستهلك، ناهيك عن عدد الشركات التركية التي تنفذ مشاريع بناء في ​روسيا​، بالإضافة إلى أن الروس يتصدرون بعد ألمانيا لائحة السياح الأجانب في تركيا.

لدى الحكومة الروسية، قلق دائم من الدور التركي ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، والتعارض السياسي في المصالح سبق أن ظهر خلال الحرب في الشيشان والبوسنة وجورجيا، وبالتالي هذه ليست المرة الأولى التي تتضارب فيها المصالح، بحسب ما يؤكد المحلل السياسي التركي، المقرب من حزب "العدالة والتنمية" ​محمد زاهد غول​، الذي يضيف، في حديث لـ"النشرة"، إلى ذلك دعم موسكو الجماعات الكردية.

ولا يتوقع غول أن تكون هناك من تداعيات كبيرة مباشرة على العلاقات المشتركة بين البلدين، نظراً إلى حجم العلاقات التي تجمع بينهما، ويستبعد "أن تقدم موسكو على أي خطوات من العيار الثقيل في الوقت الراهن"، ويشير إلى أن حجم العلاقات التجارية بين الدولتين يصل إلى حدود 40 مليار دولار، المستفيد الأكبر منها الجانب الروسي، ويرى أنّه "في حال قررت موسكو مثلاً الرد في مجال الغاز، فإن القطري حاضر على الأبواب".

من جانبه، يعتبر المحلل السياسي الروسي ​أندريه ستيبانوف​، في حديث لـ"النشرة"، أن هذه الحادثة مؤلمة جداً، وهي نوع من الإستفزاز من جانب أنقرة، ويرى أنّ "هذه الضربة قد تكون إنتقامًا من الضربات الروسية التي إستهدفت قوافل ناقلات البترول التي تحمل النفط المهرب من الحقول التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" إلى تركيا".

ويتفّق ستيبانوف مع محمد زاهد غول بأنّه لن يكون هناك من تداعيات كبيرة، خصوصاً أن العلاقات التاريخية بين الجانبين ضخمة جداً، لا سيما على الصعد الإقتصادية والتجارية، لكنه يؤكد أن الحادثة لن تمر مرور الكرام، لكن لا يمكن التوقع إلى أيّ درجة سيكون الردّ الروسي، ويرى أنه ربما يكون من خلال بعض الإجراءات السياسية، إلا أنه لا يتصور أن يكون هناك قطيعة في الإقتصاد والتجارة.

على صعيد متصل، تعتبر أنقرة أن التصريحات الروسية الأخيرة تأتي في سياق البحث عن الكبرياء، لا أكثر ولا أقل، هذا ما يؤكد عليه غول، الذي يشير أكثر من مرة إلى أن بلاده عضو في حلف شمال الأطلسي، "الناتو"، في تأكيد على أن الهجوم العسكري المباشر عليها سيكون له تداعيات خطيرة على مستوى المنطقة والعالم.

هذا لا يعني أن هذه الحادثة ستمر من دون انعكاسات، من المفترض أن تكون الساحة السورية المسرح الأساسي لها، حيث يشدد غول على موقف أنقرة الراغبة في إقامة منطقة آمنة، في ظل معارضة موسكو الشديدة لهذا التوجه، ويتوقع أن يكون هناك زيادة في الحضور الأميركي-التركي في المشهد، ويعتبر أن العمليات العسكرية الروسية تستهدف القضاء على هذه المنطقة لا "داعش".

بدوره، يلفت ستيبانوف إلى أن عضوية تركيا في حلف "الناتو"، ومسارعة المسؤولين الأتراك للمطالبة بعقد إجتماع لهذا الحلف هو أكبر دليل على حجم المشكلة التي وقعوا بها، إلا أنه يستبعد حصول أي مواجهة عسكرية مباشرة بين الدولتين، بالرغم من تأكيده بأن أنقرة تستخدم "داعش" لمكافحة الأكراد والنظام السوري، ويشدد على أن هذا التنظيم الإرهابي حليف طبيعي لها.

ويشدد ستيبانوف على أن موسكو ستمضي في طريقها لسحق "داعش" وجبهة "النصرة"، بالإضافة إلى بعض المنظمات الإرهابية الأخرى، في حين أنّ تركيا ستكون شريكة لهم، ويصف "سياسة أنقرة في العالم العربي بالفاشلة، وهذا ما يزعج رجب طيب أردوغان".

ما تقدم، يعزز فرضية الحرب بالوكالة بين موسكو وأنقرة، الأمر الذي يؤكد عليه غول، من خلال زيادة تركيا لحجم دعمها للجماعات السورية المعارضة المرتبطة بها، في الوقت الذي ستعمل فيه روسيا على زيادة حضورها العسكري على الأرض السورية.

في المحصلة، سيكون العالم، في الساعات القليلة المقبلة، على موعد مع ما قد تقوم به موسكو من خطوات عمليّة، لا يزال التكهن بحجمها ونوعها مبكرًا، إلا أن المرجح هو أن تكون الساحة السورية، وتحديداً شمالها، المسرح الأساسي لها، بالإضافة إلى خطوات أخرى كانت بدايتها مع إلغاء زيارة وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى أنقرة، بالإضافة إلى تحذير المواطنين من السفر إلى تركيا.