تُواجه تكتّلات وتحالفات قوى "8 و14" آذار على السواء، تصدّعات كبيرة، كانت موجودة في السابق لكن ضُمن أطر ضيّقة ولفترات محدودة زمنيّاً، بينما تحوّلت اليوم إلى شعور شبه دائم بعدم الثقة المُتبادل بين أكثر من طرف سياسي كان يُفترض أن يكون في موقع المُطمَئِنّ إلى تموضعه السياسي العام، وإلى تحالفاته العريضة، وإلى وفاء حلفائه له. وبدلاً من ذلك، صار شُعور الشكّ يُساور كلّ جهة سياسيّة من نوايا الحلفاء قبل الخصوم، بمُجرّد تسرّب خبر أيّ لقاء أو أيّ إجتماع لم تكن حاضرة فيه. هذا ما حصل في السابق عندما تسرّب خبر لقاء كل من رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون ورئيس الحكومة السابق النائب ​سعد الحريري​ في باريس في شباط 2014، والذي إستمرّ بعده الحديث وعلى مدى أشهر طويلة، عن صفقة رئاسيّة تُحضّر بين الزعيمين، قبل أن تنتهي كل هذه "الهَمرُوجة" الإعلاميّة وموجة الإشاعات، بقطع قالب حلوى في "بيت الوسط" بمناسبة العيد الثمانين للعماد عون. واليوم، ومع تسرّب لقاء الحريري ورئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجيّة في العاصمة الفرنسيّة أيضاً، إنطلقت موجة جديدة من التحليلات عن صفقة رئاسيّة تُحضّر، وذهب البعض بعيداً في الحديث أنّها تمّت وهي ستُعلن في الأيّام القليلة المُقبلة. فما هو وقع هذا النوع من الأخبار على التحالفات القائمة منذ مُنتصف العقد الماضي تقريباً، وهل نحن فعلاً أمام صفقة سياسيّة حاسمة، أم أمام موجة جديدة من الإشاعات؟

ضُمن تحالف قوى "14 آذار"، جاء وقع الحديث عن صفقة قيد الإعداد بين "تيّار المُستقبل" و"تيّار المردة" قاسياً على حزب "القوّات اللبنانيّة" الذي كان رئيسه ​سمير جعجع​ قد رفع الصوت في الأسابيع القليلة الماضية على حجم تمثيل "النوّاب المسيحيّين المُستقلّين"، علماً أنّ أغلبيّة هؤلاء محسوبون على "التيّار الأزرق" لكنّهم يصلون بمُساهمة كبيرة من أصوات أنصار "القوّات" ومُؤيّديها، من دون الإقرار بذلك. وبدل أن يأتي الردّ "الأزرق" مُتفهّماً لمطلب "القوات" بضرورة أن لا يُغرّد هؤلاء النوّاب خارج سربها بالحدّ الأدنى، جاء الردّ بشكل مفاجأة تمّ تسريبها، ومفادها أنّ محادثات جدّية تدور بشأن إمكان المُوافقة على وُصول النائب سليمان فرنجيّة إلى منصب الرئاسة. ومن الضروري التذكير أنّ رئيس "القوّات" لا يزال حتى إشعار آخر، ولو نظريّاً، المرشّح الرسمي المدعوم من قوى "14 آذار"، وأيّ حديث عن صفقة بين "رأس حربة" هذه القوى، أي "تيّار المُستقبل" مُمثلاَ بالنائب الحريري وسواه، كان يُفترض أن يتمّ بالتنسيق مع جعجع أوّلاً، الأمر الذي لم يحصل، من دون تسجيل أيّ إجتماع توضيحي بين الطرفين حتى الساعة.

وضُمن تحالف قوى "​8 آذار​"، لم يكن ما تسرّب عن إجتماع الحريري–فرنجيّة الباريسي، أقلّ وطأة على "التيّار الوطني الحُرّ"، خاصة وأنّه يأتي بعد حديث مُتزايد من قبل مسؤولي "حزب الله" وفي طليعتهم الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله، عن ضرورة التوصّل إلى تسوية شاملة في أسرع وقت، من دون أن يَتكرّر التمسّك السابق بترشيح العماد عون للرئاسة. وبالتالي، الأكيد أنّ "التيّار الوطني الحُرّ" الذي لم يتجاوز حتى اليوم مسألة رفض إنتخابه رئيساً منذ أيّار 2014 حتى اليوم، حتى عندما جرى طرح صيغة "الأقوياء في طوائفهم ومذاهبهم"، لن يهضم على الإطلاق مُحاولات تمرير صيغة تسوية مُشابهة تماماً، لكنّها تستبدله بالحليف المُفترض سليمان فرنجيّة، علماً أنّ "تسوية" بهذا الحجم لا يُمكن أن تمرّ من دون مُوافقة ولوّ ضمنيّة من قبل "حزب الله"، ما سيُمثّل عندها ضربة من "الحزب" لرئيس "التيار الوطني الحُرّ" لا تقلّ قساوة من ضربة "تيّار المُستقبل" لرئيس حزب "القوّات".

ومن الواضح أنّ تصاريح كلّ من "التيار الوطني الحُرّ" و"القوّات اللبنانيّة" لا تزال حتى الساعة مُقتضبة ومحدودة جداً في إنتظار وُضوح الصورة كاملة بشأن ما يتمّ تسريبه، في ظلّ عدم تصديق لكل ما يُكتب ويُشاع عن تسوية باتت على باب قوسين من الإنجاز. فهل ما يحصل حالياً هو مُجرّد "همروجة" إعلاميّة جديدة، شبيهة بالهمروجة التي كانت رافقت إشاعات التسوية بين الحريري وعون في السابق، وهذا على الأرجح ما يحصل، أم أنّنا أمام تركيبة جدّية بين عدد كبير من القوى السياسيّة الداخليّة على حساب "العونيّين" و"القوّاتيّين"؟ وإذا كان الأمر قد كُتب، هل سيتمكّن "الجنرال" و"الحكيم" من الوُقوف بوجهه، كما فعلا في نهاية حقبة الثمانينات عندما وقفا معاً أمام تركيبة "مُورفي-الأسد"(1)الرئاسيّة، أم أنّهما سيُسلّمان بالأمر الواقع؟ الأيّام المُقبلة قد تحمل بعض الإجابات عن هذه الأسئلة الحاسمة، لكنّ الأكيد أنّ تحالفات "8 و14" آذار تشهد حالياً تصدّعات كبيرة قد لا يكون من المُمكن مُعالجتها إذا ما إستمرّت الأمور المصيريّة تُحاك في الظلام.

(1)في العام 1988، وبعد إنتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، حصل إتفاق شفهي بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والدبلوماسي الأميركي ريتشارد مورفي قضى بالإتيان بالنائب مخايل الضاهر رئيساً للجمهوريّة، وقد إشتهرت بعد ذلك عبارة أطلقها مورفي من بكركي وهي: "إمّا الضاهر أو الفوضى"، لكنّ "الجنرال" و"الحكيم" رفضا الإتفاق ومنعا تنفيذه.