بعد أيام قليلة على انطلاق العملية الدفاعية المنسقة التي تشارك فيها إلى جانب سورية كلّ من روسيا وإيران وحزب الله، ظهر للأميركيين أنّ خطتهم بجرّ روسيا إلى حرب استنزاف طويلة تكون بديلاً أو تعويضاً لها عن الإخفاق في إسقاط سورية، خطة سقطت بعد أن أخفقت خطة الإسقاط الأخرى، وتأكد للجميع أنّ الميدان السوري وباعترافهم بات راجحاً بشكل مؤكد لمصلحة سورية بقيادة الرئيس الأسد الذي أصبح بالنسبة للغرب ولكلّ جمهرة المعتدين كابوساً يقضّ مضاجعهم وبات مجرد تصوّر استمراره في قيادة سورية أمراً مرعباً لهم، لأنه يشكل الدليل على هزيمة العدوان وفشل الخطط المتتابعة التي اعتمدت ضدّ سورية.

ويبدو أنّ الغرب وفي تقدير موقف «علاجي» للمأزق المستجدّ بعد 30 أيلول الفائت – تاريخ بدء المساعدة الروسية لسورية ميدانياً – تبيّن له أنّ إعادة التوازن للميدان يبدأ بالضغط على روسيا لوقف مساعدتها العسكرية لسورية، ثم الانصراف إلى ما تبقى من عمل باتجاه إيران والمقاومة من جهة لثنيهما عن المتابعة أو لتحجيم وجودهما في الميدان السوري، ومن جهة أخرى إلى رفع وتيرة تحشيد وتسليح الإرهابيين لمنع انهيارهم أمام المدّ العسكري السوري التطهيري.

وفي هذا السياق جاءت العملية الإرهابية فوق سيناء والتي أدّت إلى إسقاط طائرة مدنية روسية قتل كلّ ركابها على بعد كيلومترات من مطار شرم الشيخ الذي لا يتمتع فيه بحصانة أمنية إلا بعض الأفراد المنضوين في القوات المتعدّدة الجنسيات في سيناء. ولم تتأخر التسريبات الإعلامية الغربية عن ربط الحادث بيد «إسرائيلية» أو استخبارات غربية وجاءت مسارعة أوباما وكاميرون للحديث عن تفاصيل سقوط الطائرة والقول بأنّ السبب كان عملاً إرهابياً لتؤكد أنّ السقوط كان عملاً مدبّراً يُقصد منه الضغط على روسيا ومصر معاً.

هنا وبدلاً من أن تنحني روسيا أمام الضربة، كما كان يتوقع مَن أسقط أو خطط لإسقاط الطائرة، رفعت روسيا نمط ووتيرة وفعالية مساعدتها العسكرية لسورية وطوّرت ذلك في اختيار أهداف جديدة أكثر إيلاماً للإرهابيين ومشغليهم، فاستهدفت «أنبوب النفط على العجلات» الشريان الاستراتيجي لتمويل «داعش»، ما أدّى إلى تدمير أكثر من 800 صهريج من أصل 1800 صهريج تعمل بين آبار النفط في سورية والعراق وميناء جيهان التركي وعطلت حركة ما تبقى، ثم كان الإسناد الجوي المركز فوق جبل التركمان في الشمال الغربي لسورية، المنطقة التي ترى فيها تركيا المدخل الطبيعي لتدخّلها في سورية والمعبر إلى تحقيق حلمها بإنشاء المنطقة الآمنة المقتطعة من الأرض السورية.

بمعنى آخر، كان ردّة الفعل الروسية على إسقاط الطائرة الروسية المدنية أكثر إيلاماً للإرهابيين ولتركيا وأضعاف ما توقعوا أو انتظروا. وفي تقدير موقف تركي سُرّب بعض ما جاء فيه، رأى الأتراك أنّ استمرار العملية العسكرية في سورية بالزخم الذي تجري فيه حالياً سيقود إلى تجريد تركيا من كلّ أوراق تدخلها في سورية وسيهمّش دورها في حلّ سياسي مستقبلي للأزمة السورية، كما أنه حسب الرؤية الأميركية سيحدّ من تحقيق شيء من الأهداف الأميركية هناك. ولذلك كان القرار بعمل عسكري يقطع الطريق على هذا الاحتمال.

ويبدو أنّ أميركا وتركيا اختارتا إسقاط الطائرة الروسية بصرف النظر عن مكانها، أكانت فوق الأرض السورية أو داخل الأجواء لتركية، فتركيا تعلم أن ليس لها حق مشروع في التعرّض للطائرة أينما كانتـ، لأنّ المهمة التي تقوم بها الطائرة هي مهمة مشروعة في قتال الإرهابيين، خاصة بعد قرار مجلس الأمن الأخير الرقم 2249 الذي أجاز للدول اتخاذ كلّ التدابير للحرب على الإرهاب، وتأكيداً على أنّ العمل مخطط يكفي أن نتذكّر أنّ تركيا تدّعي أنّ الطائرة حلقت في الأجواء التركية 17 ثانية وهي مدة غير كافية لانطلاق طائرة تركية من قاعدتها واعتراض الطائرة الروسية.

ومع كلّ ذلك أسقطت الطائرة في عملية استفزازية يبدو أنّ المقصود منها إجراء استدراج مزدوج، استدراج لروسيا لردّ فعل تصوّر تركيا معتدى عليها، وتلزم بذلك الحلف الأطلسي بالوقوف إلى جانبها عملاً باتفاقية الدفاع المشترك الأطلسية. فإذا فعل تقع المواجهة مع روسيا بشكل يضطرها إلى الانكفاء في سورية أو تحوير مهمتها بعيداً عن ميدانها أو أقلّه التسليم بمنطقة حظر جوي واقعي في شمال سورية تكون اللبنة الأساسية للمنطقة الآمنة التي تحلم بها تركيا.

وبالتالي يبدو مَن تتبّع ما جرى معطوفاً على المواقف التي سبقت ولحقت، يبدو أنّ العدوان التركي على الطائرة الروسية جاء نتيجة خطة مدبّرة ومحكمة وضعت ليس بعيداً عن أميركا التي قد تكون شجّعت عليها، أو لم تعارضها وشاءت تنفيذها باليد التركية لجسّ النبض، فإنْ حققت أهدافها تتبناها وتبني عليها وإنْ فشلت تتنصّل منها ويدفع التركي وحده فاتورة الخطأ. وللعلم لا يمكن لتركيا استعمال طائرة ف 16 بدون إذن أميركي

نقول كانت الخطة محكمة، ولكننا نقول أيضاً بأنّ الخصم لم يكن بسيطاً بالشكل الذي تصوّرته تركيا وأسيادها، ولهذا كان واضحاً ومن الساعات الأولى أنّ ردّ الفعل الروسي لن يكون كما يشتهي المعتدي بل سيكون من الطبيعة المعاكسة لأهداف العدوان، ردّ نراه يختلف عما تشتهيه تركيا، ردّ يأتي متجنّبا الفخ أو الكمين التركي، أيّ أننا لا نرى أيّ احتمال مهما كان ضعيفاً في أن تقدم روسيا على عمل عسكري مباشر ضدّ تركيا أو على أراضيها يبرر زجّ الأطلسي في المواجهة، بل الردّ يكون وفقاً لعناوين ثلاثة:

1 ـ الأول حمائي دفاعي، ويتمثل بنشر منظومات دفاع جوي فعالة تمكّن من بناء فضاء ناري يدمّر أيّ هدف جوي يهدّد سلامة الطيران الروسي في سورية أو يهدّد سلامة القوى الدفاعية السورية العاملة في الميدان في الشمال الغربي السوري، أيّ بمعنى إقامة شبه حظر جوي معاكس للرغبات التركية. وهذا ما بدأ العمل به فعلياً بنشر منظومة أس 300 والتحضير لنشر منظومة أس 400 في مطار حميميم التي تغلق أجواء بعمق 300 كلم داخل تركيا.

2 ـ الثاني عسكري ميداني: ويتمثل في تسريع العمليات العسكرية في المنطقة التي تحدث الإيلام الأكبر لتركيا ومنها إلى كامل المنطقة الشمالية بشكل يقود إلى قطع اليد التركية ومنعها من التدخل المؤثر في الميدان السوري وتحرم تركيا من السرقات التي تستثمرها انطلاقاً من سورية، ومنها النفط.

3 ـ الثالث متصل بالعلاقات البينية بين روسيا وتركيا في مواضيعها المتنوّعة، ومنها الاقتصادي المالي، ومنها السياسي العسكري، واعتقد أنّ ما صدر عن روسيا خلال 24 ساعة فقط من مواقف وقرارات ينبئ بتجميد متدرّج لهذه العلاقات إلى حدّ قد يلامس الجفاف المؤلم من دون الوصول إلى القطيعة بين روسيا وتركيا. والكلّ يعلم حجم الحاجة التركية لعلاقات ودية مع روسيا على أكثر من صعيد.

وبالتالي فإنّ روسيا لم تُستدرج إلى ما نُصب لها من كمين، ولم تجد الأطلسي – الذي تستّر على العدوان التركي وأظهر نوعاً من تعاطف مع تركيا – لم تجده يتجه تصعيدياً لمواجهتها فعلياً خدمة للمصالح التركية أو لأهداف العدوان ذاتها، وبات واضحاً أنّ العملية العدوانية التركية سترتدّ على المعتدي بنتائج عكسية في أكثر من اتجاه، هي وإنْ كانت ستعرقل بعض الشيء العمل على المسار السياسي وتؤخر بعض إجراءاتها التي بدأ إنتاج بيئتها في فيينا، فإنّ تركيا وخلفها مَن أمرَها أو أجاز لها الاعتداء، ستجد نفسها خاسرة في الميدان بما يفاقم خسارتها، وخاسرة في السياسة في مسار يؤكد تهميشها، ولن تجد الأطلسي في الموقع الذي ينقذها من الحفرة التي أُسقطت أو أَسقطت نفسها فيها.