بعدما تمّ تأكيد تبني رئيس "تيار المستقبل" النائب ​سعد الحريري​ ترشح رئيس تيار "المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ لرئاسة الجمهورية، دارت الأسئلة حول سر تلك "الانعطافة الحريرية". من قرّب المسافات؟ ما هي غاية الحريري؟ لماذا وجّه لحليفه الأساسي في "قوى 14 اذار" رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ صدمة ستجرّ تداعيات على العلاقة بين الفريقين؟ وهل تقتصر تداعياتها على الإثنين فقط، أم انها ستدفن الحلف الأوسع-وليد "ثورة الأرز" الممتد من عام 2005 حتى الآن؟

بالنسبة لمعارضي وصول فرنجية الى الرئاسة كان التركيز على معرفة أجوبة أهم حول رأي السعودية بموقف الحريري. هل هو نسّق طرحه مع الرياض، أم أنه قدّم تسوية تتيح له الوصول الى سلطة لبنانية تعيد مكانة رئيس "المستقبل" عند السعوديين بعد تصدع معنوي أصابها في السنوات القليلة الماضية؟

تداول المتضررون من انتخاب زعيم "المردة" معلومات نُسبت لجعجع عن ان تصرف الحريري لا يعبّر عن موقف الرياض، بل هو يعكس رأي فريق سعودي واحد. وبالتالي الرهان عند هؤلاء المتضررين هو على معارضة السعوديين لوصول فرنجية الى بعبدا.

العارفون يجزمون ان رئيس "المستقبل" اتخذ قراره "الاستراتيجي" نتيجة موافقة سعودية مسبقة. لا يمكن "للشيخ سعد" الإقدام على خطوة بهذا الحجم من دون مباركة المملكة، خصوصا ان مرشح الرئاسة هو سليمان فرنجية، وما يرمز اليه من مكانة سياسية في صلب "8 آذار" وحلف المقاومة وصديق الرئيس السوري بشار الاسد.

يقول "المتضررون" انفسهم إن موافقة السعودية على تبني فرنجية، تعني عملياً إبلاغ جعجع مسبقاً بالأمر لعدم التشويش على تلك "الانعطافة السياسية"، لأن رئيس "القوات" يُعدّ من الحلفاء المقربين من الرياض. المعادلة عند هؤلاء تتلخص بإختصار: بما ان جعجع معارض شرس لخطوة الحريري، فلا موافقة سعودية على طرح "رئيس المستقبل".

يستند اصحاب تلك النظرية الى مكانة جعجع في الدول الخليجية الّتي يحظى بإهتمامها، الى حد يتقدم فيه على الحريري. ويذكّرون بوقائع استقباله والحفاوة التي قوبل بها من دون المرور "بالباب الازرق". وحده جعجع تميّز بتلك الرعاية العربية.

بالحقيقة أصاب قرار الحريري جعجع بالإرباك. صمته ورسائله وانتظاره دلّوا على ذلك. لكن رئيس "القوات" قادر على التحرك والتكيف مع كل السيناريوهات. هو سياسي محنّك يقوم بدراسة ملفاته ولا يتخذ قرارات عشوائية تنمّ عن رد فعل.

يسأل المراقبون: هل ينجح "الحكيم" بالتشويش على مبادرة الحريري، أم ان جعجع سيعود للانخراط في صفوف الداعين الى تمرير التسوية لاعتبارات تعود بالنفع على لبنان، وتحيّده عن أزمات وتستبق مفاوضات إقليمية-دولية ستحلّ ولو بعد حين؟

كل شيء في السياسة قابل للتنفيذ. التسوية لن تكون فقط حول رئاسة جمهورية او مجلس وزراء، بل تمتد لتشمل قانون الانتخابات وحجم القوى، والحصص الوزارية وربما التعيينات والنفوذ والمصالح. لذلك النقاش السياسي مفتوح والخيارات كلها مطروحة.

في الفترة الأخيرة ارتفع سعر سهم "سوليدير" بالتزامن مع جلسة المجلس النيابي ثم الحديث عن التسوية الشاملة. هذا المؤشر يوحي بالاستعداد اللبناني لمواكبة اي حل سياسي ستتردد اصداؤه في لبنان. لبنان بات بأمس الحاجة لحلول تسووية، على الاقل لاخراج النفايات من الشوارع وإقرار سلسلة الرتب والرواتب وتحقيق مطالب قطاعات والاهم اعادة الهيبة الى الدولة.

منذ اسبوع كان احد الباحثين العرب المرموقين في طريقه من واشنطن الى بيروت، فصودف لقاؤه مع احد المسؤولين الماليين الكبار العاملين في البنك الدولي على نفس الطائرة التي تقل الاثنين من الولايات المتحدة الاميركية، جرى تبادل الحديث على قدر المسافة الزمنية للرحلة الطويلة. الموظف الدولي بدا واثقاً من ان المرحلة المقبلة في لبنان واعدة، لاعتبارات تعود اولاً لوجود تغطية دولية لهذا البلد، مطلوب له ان يبقى مستقراً، وان لا يسمح للتطرف ان يغزو مجتمعه، استعدادا لمرحلة الإعمار في المنطقة، "عبر المصارف اللبنانية سيتم التمويل، ومن خلال لبنان سيجري ترسيخ خطط الاستقرار". قد يبدو ذلك بعيداً في ظل الحروب القائمة، لكن في النهاية ستُفرض التسويات، ولا بدّ ان يكون لبنان الآن في جهوزية دائمة، يتفرّغ متحداً لمواجهة الارهاب.

من اهم عوامل الموافقة على عودة الحريري الى السلطة، هو تعزيز خيارات الاعتدال في صد مشاريع التطرف. مفاجآت تصدم العواصم عن حجم الاختراق الذي يحققه تنظيم "داعش" في صفوف المسلمين. هو يتغلغل في المجتمعات الفقيرة مستغلاً "التهميش" الاجتماعي او السياسي الموجود. المواجهة العسكرية ليست كافية، لا بدّ من سد الثغرات التي يتسلل من خلالها.

لا ينفصل قرار تبني انتخاب فرنجية للرئاسة في لبنان عن حسابات إقليمية. هناك من يعتقد في صفوف "14 آذار" ان الخطوة تمهّد لطمأنة "8 آذار" وتقلل من حجم التصلب في شأن الملف السوري.

لكن في سياق هذا السيناريو قراءات اخرى مناقضة، الى حد استناد المتضررين من التسوية اللبنانية المطروحة الى اعتبار قرارات "قمة خامنئي-بوتين" في طهران انها جاءت لتمنع التنازلات، فتبعها الاشتباك الأميركي-الروسي عبر الاتراك.

هؤلاء يشككون بنجاح المبادرة اللبنانية على اساس: كيف يُمكن ان تجري التسوية التشاركية في لبنان في عز الاصطدام الإقليمي؟ فيردّ المطلعون على سير المحادثات: نعم يُمكن استنادا الى تجربة العلاقة القائمة داخلياً مثلاً بين رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط و"حزب الله" اولاً، والى وقائع طاولة حوار عين التينة بين تيار "المستقبل" و"حزب الله"، ثانياً: تقارب داخلي واستبعاد سلاح "حزب الله" عن النقاش واحترام كل فريق لرأيه المتشدد حول الاحداث الإقليمية. ببساطة نجحت التجربة. هل سمعتم اي انتقاد "مستقبلي" لتدخل "حزب الله" في سوريا بعد حصول التفجير الإرهابي في برج البراجنة؟

لا تزال الأسئلة هي القائمة الآن، لكن الإيجابية تتقدم في ظل دفع دولي لإخراج تسوية لبنانية. إجهاض التسوية سيمدد الازمة الداخلية، فهل يتحمل اللبنانيون شغوراً في المسؤولية؟!