حتى الساعة، لا تزال أوساط "التيار الوطني الحُرّ" وحزب "القوات اللبنانيّة" وغيرهما تعتبر أنّ ما يُحكى عن إستعداد رئيس "تيّار المُستقبل" النائب ​سعد الحريري​ لتبنّي ترشيح رئيس "تيّار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ لرئاسة الجمهورية في إطار "تسوية" شاملة يتبادل فيها الطرفان التنازلات، ما هو إلا مُناورة سياسيّة لا أكثر. والنظريّات كثيرة في هذا الصدد، حيث يتحدّث البعض عن مناورة شبيهة بتلك التي إعتُمِدت مع رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون منذ أكثر من عام بهدف الإيقاع بين عون وفرنجيّة، ويرى البعض الآخر أنّ الهدف هو إحراق ورقة فرنجيّة وعون معاً، تمهيداً لطرح إسم توافقي من خارج لائحة ما سُمّي "الموارنة الأربعة الأقوياء". وبحسب فئة أخرى من النظريّات والتحليلات، فإنّ النائب الحريري يُحاول إستعادة موقعه على الساحة اللبنانيّة الداخلية عبر توجيه رسالة للجميع بأنّ مفتاح القصر الجمهوري بيده، لا أكثر ولا أقل. ويرى آخرون أنّه يُحاول "زكزكة" العماد عون عبر "البديل الحاضر"، و"زكزكة" رئيس "القوات" ​سمير جعجع​ ردّاً على تقاربه من عون وهُجومه على النواب المسيحيّين المُستقلّين المحسوبين بأغلبيّتهم على "تيار المُستقبل".

في المُقابل، تُوجد نظريّات أخرى تسخر من مُحاولات تقزيم ما يجري وراء الكواليس، وتتحدّث عن قرار كبير مُتخذ بإيصال النائب فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، في مُقابل عودة الحريري إلى منصب رئاسة الحُكومة مع حصّة وزاريّة وازنة. والأهم من ذلك، أنّ "التسوية" لا تقتصر على توزيع المناصب الثلاثة الكبرى والحصص الحكوميّة، وإنما تشمل قانون الإنتخابات المُقبل، حيث يُحاول النائب الحريري، بحسب أصحاب هذه النظريّة، تجميع أكبر قدر من الكتل النيابيّة رفضاً لأيّ قانون إنتخابي جديد يعتمد مبدأ النسبيّة. ودائماً مع النظريّات والتحليلات، يعتبر البعض أنّ الحريري يُحاول إستباق التغييرات الإقليميّة التي لا تصبّ في صالح فريقه، والتي قد تنتهي بفرض فرنجيّة رئيساً بحكم الأمر الواقع، بعقد إتفاق تسوية مع هذا الأخير، يحفظ حصص مختلف الأطراف. ومن بين التحليلات أيضاً وأيضاً، أنّ "التركيبة" التي حكمت لبنان في زمن الإحتلال السوري، والتي كانت تضمّ كلاً من الوزراء السابقين سليمان فرنجية وميشال (أو إلياس) المرّ بشكلٍ خاص عن المسيحيّين، في مُقابل مُمثّلين عن كل من رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري وعن رئيس مجلس النواب نبيه بري وعن رئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" ​وليد جنبلاط​، تعمل لإعادة إنتاج نفسها من جديد (مع بعض الإستثناءات)، عبر تقاسم المواقع الرئاسيّة الثلاث والحصص الوزارية، وعبر مُعارضة تمرير أيّ قانون إنتخابي جديد يُؤدّي إلى خسارة إمتيازاتها وإلى فقدان إمتداداتها داخل الحصّص النيابيّة المُفترض أن تكون للمسيحيّين.

وحتى الساعة، لا تزال مواقف كل من "القوات" و"التيّار" منخفضة السقف ممّا يُشاع في إنتظار تمييز الخيط الأبيض من الأسود، لكنّ كل المعلومات المتوفّرة أنّه في حال تبيّن وُجود سعي جدّي لتمرير هكذا "تسوية" لتقاسم السلطّة، فإنّ عون وجعجع يتجهان لمواجهة هذا القرار بكل الوسائل المُتاحة، ولو من إعتبارات مختلفة بينهما. "الجنرال" على يقين أنّ ما يُحكى عن "تسوية" لا تُبعده نهائياً عن منصب الرئاسة فحسب، إنّما تعني أيضاً سُقوط مُطالبته بإقرار قانون إنتخابات نيابيّة وفق مبدأ النسبيّة بشكل كلّي أو جزئي في أفضل الأحوال، نتيجة إصرار "تيّار المُستقبل" ومعه "الحزب التقدمي الإشتراكي" على أن تتضمّن أيّ تسوية إتفاقاً مُسبقاً على قانون الإنتخاب، وهما المعروفان بمُعارضتهما لقانون النسبيّة. و"الحكيم" مُصرّ على أنّ ما رفضه بعد "الطائف" من مناصب وزاريّة إنطلاقاً من مواقفه السياسيّة المبدئيّة، لا يُمكن التفريط به اليوم، في مُقابل نيل منصب وزير الداخليّة في الحكومة المُقبلة، كما يتردّد على مُستوى الترغيب، وفي مُقابل زيارة "طمأنة" يقوم بها النائب فرنجيّة إلى معراب. وهو صار على قناعة أكثر من أيّ وقت مضى بضرورة إقرار قانون إنتخابي يسمح للمسيحيّين بانتخاب نوّابهم، من دون منّة من أحد وارتهان لأحد.

وبالتالي، من الواضح أنّ عون وجعجع ينتظران أن يتم تبليغهما رسمياً بشأن ما يُحكى عن مبادرة تسوية، كلّ من جانب "حليفه" المُفترض، للبناء على الشيء مُقتضاه، لكنّ القرار مُتخذ بمواجهة أيّ فرض لأي إتفاق، وهما سيرفضان "التسوية" كما هي مطروحة، وسيُطالبان أوّلاً بقانون إنتخابي يُعيد للمسيحيّين قدرتهم على إيصال ممثّليهم من دون تدخّل من باقي الطوائف والمذاهب، وسيتمسّكان بهذا المطلب حتى النهاية هذه المرّة. وهما سيتعاملان مع موضوع ترشيح النائب فرنجيّة تبعاً لمدى جدّية الطرح، ولمدى إصرار باقي الأفرقاء بالسير به حتى من دون موافقتهما، وعندها يُصبح خيار مقاطعة الجلسة الإنتخابيّة، وارداً بنسبة عالية، ولوّ أنّ إفشال النصاب لا يُمكن أن يتم من قبلهما وحدهما. فحجم كتلة "التيار الوطني الحُر" النيابيّة (17 نائباً) و"القوات" (8 نواب)، ما يرفع المجموع إلى 25 نائباً في حال تقيّد الجميع بالتعليمات الحزبيّة. وبما أنّ النصاب القانوني لأي جلسة هو 85 نائباً، من الضروري مُقاطعة 43 نائباً لإفشال نصاب الثلثين، باعتبار أنّ المجلس الحالي يتكوّن من 127 نائباً، منذ وفاة نائب جزين ميشال حلو. وإذا إفترضنا جدلاً أنّ نوّاب "حزب الله" (12 نائباً) سيغيبون عن أيّ جلسة يُقاطعها "التيار الوطني الحُرّ"، إنسجاماً مع تحالفهم معه، وأنّ النائب دوري شمعون لن يحضر إنسجاماً مع القناعات التي إنطلقت فكرة "14 آذار" منها، يبقى من الضروري مُقاطعة 5 نوّاب إضافيّين، لإفشال الجلسة. وهذا العدد يُمثّل مثلاً عدد كتلة نوّاب حزب "الكتائب اللبنانيّة" الذي تربطه علاقة جيّدة بفرنجيّة، وسبق له وأن سارع إلى دخول جنّة الحكم مع حكومة تمام سلام، من دون أن يُعرَف بعد موقفه النهائي من طرح "التسوية" الحاليّة. ومن المُحتمل أن يخرج عدد من النوّاب السُنّة عن تعليمات الحريري، في حين يُعوّل على إمكان رفض بعض النوّاب الآخرين لطرح "التسوية" في حال تجاهل مطالبهم الوزارية أو على مستوى قانون الإنتخابات.

إذاً، الأمور رماديّة بشأن الغاية من طرح الحريري والهدف منه. والأمور رمادية إذا ما كان ترشيح فرنجية مُجرّد إقتراح داخلي أم بناء على تفاهم إقليمي–دولي. والأمور رماديّة بشأن موقف "حزب الله" من هذا الطرح ككل. لكنّ الأكيد أنّ عون وجعجع اللذين "جمعتهما المُصيبة"، مُصمّمان على المُواجهة وعلى إفشال هذه "التسوية"، في حال كانت جدّية، وكلّ من مُنطلقات مُختلفة. وهما سيسعيان جاهدين لتوسيع دائرة المُعارضين لها بهدف إسقاطها سياسياً، مُعوّلين على ضغوطهما وعلى تعاظم المُعارضة داخل "تيّار المُستقبل" نفسه، على أن يُحاولا بعد ذلك إسقاط التسوية في مجلس النواب، في حال عجزا عن وقفها سياسياً عبر الضغط على "الحلفاء" الذين سيتحوّلون عندها إلى "حلفاء سابقين"، لتُطوى تلقائياً عندها عبارة فريقي "8 و14 آذار".