يتمسّك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كقائد لحملة إسقاط النظام السوري في المنطقة منذ العام 2011 بمحاولات تقديم ملف منقوص للرأي العام يحكي كيفية خروج إرهابيّين من سجون النظام السوري عقب الأزمة وتجنيدهم في صفوف جماعات تقاتل في سورية من دون أن يلتفت حتى الساعة إلى ضعف الرواية بالنظر إلى الكمّ الهائل من عناصر تنظيم «داعش» وغيره المنتشرين في المنطقة والعالم منذ 5 سنوات، والتي تطلب تجنيداً وتمويلاً غير مسبوقين وحرية حركة لا يمنحها النظام السوري، هذا من دون التفصيل في استحالة أن يقاتل الأسد نفسه ويدمّر مؤسسات البلاد ومقدّراتها.

الرواية الضعيفة تعود اليوم لتطفو على السطح في محاولة تركية لنفي اتهامات روسيا حول تورّط أردوغان بحماية قوافل النفط وتأمين أسواق بيعها مع تورّط ابنه أيضاً في هذه الصفقات. هكذا تتحدث التقارير التي استفزت أردوغان فقرّر مواجهتها تارة باعتبار روسيا تساهم في تأجيج الصراع ودعم الإرهاب، وأخرى في نفي أيّ حماية لصهاريج النفط التي تعتاش منها «داعش»، والأكثر خطورة كان تمكُّن روسيا من تحقيق إصابات مباشرة في تلك القوافل وأنابيب النفط الاستراتيجية بالنسبة للتنظيم في خطوط تحرك أحرجت تركيا التي ظهرت متغاضية أمنياً عن كلّ ما يجري على حدودها، وهي التي افتعلت اليوم أزمة من اجل تعليم روسيا درساً في السيادة وحماية الحدود.

بعد خمس سنوات يمكن للمتابع جمع مؤشرات العلاقة بين تركيا ومشروعها بشكل وثيق والتحدّث بدقة عن معطيات كافية تؤكد المشهد الذي تخطى إسقاط الأسد ليصل إلى تبني مشروع «إخواني» ممتدّ حشد المناصرين من كلّ العالم للالتحاق به، وسورية «بوابته» التي تفشله أو التي تضعه على السكة الصحيحة.

يجد أردوغان نفسه اليوم فارغ اليدين من أيّ امتداد أراده لدولة مفترَضة وضع كلّ رصيده السياسي عند الأميركيين لأجلها، وقادهم نحو زعامة «الإخوان المسلمين» في المنطقة، ففشلت فروع امتداد حزبه في مصر وتونس بسرعة خيالية بعد أن تسلّمت السلطة وفق حسابات صحيحة من أردوغان حينها ورغبة الشعوب أيضاً في تلك البلدان، إلا أنها خسرتها بسبب استئثارها بالسلطة وبروز الجشع والطمع، حتى تحوّلت مرشداً روحياً للإرهاب.

أحد أبرز المؤشرات التي تؤكد أنّ مشروع الامتداد الإخواني في المنطقة هو حلم قديم، وقد وجد أردوغان الفرصة في تحقيقه عند أول شرارة لـ»الربيع العربي»، هو رفع التأشيرات عن عدد كبير من دول العالم ابتداء من عامي 2009 – 2010 حتى أتت الأزمات إلى المنطقة فوفّر رفعها خدمة مجانية للإرهابيين لكي يتنقلوا بشكل مريح جداً من تركيا واليها، وقد تمتّعوا بحرية حركة غير مسبوقة من دون أن يظهر من تركيا حتى مَواطِن القلق، وكأنها قادرة على ضبط هذه التحرّكات على أراضيها غير آبهة بالتهديدات الأمنية، في وقت يتجه العالم نحو التضييق على الأجانب وترفع المطارات حالة التأهب منذ أحداث 11 أيلول 2001.

لبنان هو إحدى تلك الدول التي استفادت من رفع التأشيرات من تركيا وإليها اقتصادياً وسياحياً، لكنه أيضاً وفر للإرهابيين على أراضيه فرصة اختيار تركيا كدولة قادرة على استقبال كلّ من يحلو له زيارتها، من دون التفكير بهمّ «الفيزا» طالما أنها قد رفعتها عن 70 دولة وهي تتحكم بإعادتها، حسب الحاجة، هكذا حصل مع ليبيا عند سقوط الحلم الإخواني فألغت تركيا مذكرة الاتفاق الموقعة معها، التي تنصّ على رفع تأشيرة الدخول المتبادل بين الطرفين، اعتباراً من 24 أيلول 2015.

في لبنان أوقفت استخبارات الجيش، إرهابياً ملقباً بـ»أبو عائشة» وينتمي إلى «جبهة النصرة» في مطار بيروت الدولي، وهو مَن أعدم الجندي اللبناني الشهيد محمد حمية، وذلك أثناء محاولته السفر إلى تركيا. هكذا يجد الإرهابيون ضالتهم دائماً هناك، وهكذا سهّلت تركيا اعتبارها ملاذاً آمناً لكلّ من يريد التوجه إليها ويقدّم اعتماداته لمشروع العدالة والتنمية الذي يبدو أكثر من أيّ وقت مضى بالعناد التركي مشروع حياة وموت.

إنّ تسهيل إجراءات السفر ومنح التأشيرات أدّيا دوراً حيوياً في الدفع بمعدلات حركة الدخول والخروج إلى الأراضي المستهدَفة والعودة منها لطلب الحماية في تركيا وهذه الإجراءات جعلت من تركيا ملاذاً آمناً مكّن الإرهاب من التمدّد ودخول مطارات العالم بجوازات سفر مزوّرة أحياناً – تماماً كما أُلقي القبض على الفار قاتل الشهيد حمية – مع تسهيلات قدّمتها حكومة العدالة والتنمية، لربط الدول المعنية ببعضها البعض، تحت مظلة مشروعها الإخواني ما يؤكد تعاطي تركيا منذ البداية مع هذا المخطط على أنه بناء لدولة واحدة تمتدّ وسع الشرق الأوسط تحت امرة أردوغان «الرمز الإسلامي» السني في وجه إيران وامتدادها السياسي الشيعي بحسابات الأتراك.

لا يمكن اعتبار عدم إلغاء أو التدقيق على رفع التأشيرات عن بلد متوتر كلبنان كواحد من الأمثلة في ظروف كهذه سهواً تركياً على الإطلاق، خصوصاً بعد نجاح الإرهاب في استهداف باريس والتقدّم نحو عمليات إرهابية نوعية. لقد أمّنت تركيا مطاراً احتاجته هذه الدولة المتطرفة، وهي تدرك اليوم أنّ روسيا وضعتها أمام الحقيقة الكاملة، فالاطمئنان التركي والتسهيلات التي تمنحها أنقرة للزوار بهذا الوقت يشكل وحده تأكيداً على عمق الجريمة التركية.