شكلت زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى فلسطين المحتلة، في هذا التوقيت الذي يزدحم فيه جدول أعماله وتتصدره الكثير من الأزمات الهامة في المنطقة والعالم، دليلاً إضافيا على أن أولوية أن تهب الولايات المتحدة لنجدة إسرائيل ومساعدتها على مواجهة الانتفاضة الفلسطينية المتصاعدة، والتي أدت وتؤدي إلى إغراق الكيان الإسرائيلي في حرب استنزاف، لا تتقدم عليها أي أولوية أخرى، ولهذا وجد كيري وقتاً للقدوم إلى فلسطين المحتلة، وبذل المساعي لأجل إيجاد وسيلة لإخماد الانتفاضة وإجهاضها، وبالتالي إعادة الهدوء والأمن والاستقرار إلى الكيان الإسرائيلي، وصولاً إلى إنقاذه من المأزق الذي دخل فيه بفعل هذه الانتفاضة.

ولوحظ أن كيري لم يأت إلى فلسطين المحتلة، إلاّ بعد أن أيقنت واشنطن أن ربيبتها إسرائيل، الطفل المدلل أميركياً، تعاني من العجز والفشل في قمع الانتفاضة، ومنع العمليات المتواصلة للشباب الفلسطيني، والتي باتت تأخذ منحى تصاعدياً بعيداً عن السيطرة مما يشكل خطورة على أمن واستقرار إسرائيل، ويؤدي إلى إسدال الستار على إنجازات أوسلو الإسرائيلية، وبالتالي إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى نقطة الصفر، وما يعنيه ذلك من تهديد للمشروع الصهيوني، الذي اعتقد قادة العدو بأنهم باتوا قاب قوسين من استكمال تنفيذه، وترسيخ وجوده على أرض فلسطين وتصفية قضيتها.

ومن يتابع مجريات الأحداث بدقة لا بد له وأن يلاحظ أن توقيت زيارة كيري قد جاء في أعقاب جملة من التطورات أبرزها:

1 - وصول قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى استنتاج مفاده أن الانتفاضة ليست عابرة أو طارئة، وأنها مرشحة للاستمرار، وهي تشهد تصاعدا في عمليات القنص والطعن والدهس التي باتت تشمل القدس المحتلة ومدن الضفة، ولا سيما الخليل والأراضي المحتلة عام 1948.

2 - فشل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في الوصول إلى الجهات التي تخطط للعمليات التي ينفذها الشبان الفلسطينيون، والسبب الأساسي في هذا الفشل يكمن في عدم وجود هرمية تنظيمية لخلايا المقاومة، واعتماد السرية التامة في تنفيذ العمليات.

وهو ما جعل من الصعب الحصول على أي معلومة أو إنذار بشأن أي عملية ستحصل.

وعلاوة على ذلك فان الوسائل المستخدمة في العمليات تشكل عاملاً مساعداً في تعزيز السرية، فكيف يمكن اكتشاف متى سيقوم شاب فلسطين بدهس جنود أو مستوطنين، أو طعن أحدهم بسكين، أو الاستيلاء على سلاح جندي وقتله به.

3 - إن استمرار الانتفاضة وعملياتها، إضافة إلى كونه يوجه ضربة قاصمة لمنظومة الأمن الصهيونية، ويدخل إسرائيل في حالة من القلق وانعدام الأمن وفقدان ثقة المستوطنين بقدرة أجهزتهم الأمنية على توفير الحماية لهم، فانه أيضا يصيب الاقتصاد بالشلل كما يصيب المشروع الصهيوني بإعطاب كبيرة.

4 - تبين أن الإجراءات القمعية الانتقامية التي اتخذتها سلطات الاحتلال كان مردودها عكسيا، حيث أدت إلى تأجيج الانتفاضة والمقاومة، بدلاً من إضعاف جذوتها.

وفي هذا السياق أظهر بحث أجراه المعهد الاسرائيلي للديمقراطية بان هدم منازل منفذي العمليات لا يشكل أداة ردع كما يدعي المستوى السياسي الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية بل على العكس من ذلك بين البحث أن هدم المنازل يشجع على تنفيذ المزيد من العمليات.

5 - ازدياد القلق الإسرائيلي من انعكاسات استمرار الانتفاضة على صورة إسرائيل في الخارج لاسيما في الدول الغربية حيث تزداد عزلة إسرائيل وتتنامى المقاطعة لها.

وآخر ما حصل على هذا الصعيد قرار المقاطعة الأكاديمية الذي اتخذته الجامعات الأميركية تجاه الجامعات الإسرائيلية، وهو ما أسهم في زيادة القلق الإسرائيلي من ازدياد عزلة إسرائيل لدى الرأي العام الأميركي والأوروبي، ولهذا حذر بعض المحللين والكتاب الإسرائيليين من كرة تلج توُدي إلى تشكل رأي عام ضاغط على الحكومات الغربية لاتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل بسبب سياساتها العنصرية والنازية التي تعتمدها ضد الفلسطينيين.

لكن في ضوء ما تقدم هل سيتمكن كيري من النجاح في مهمة إنقاذ إسرائيل من مأزقها، وإجهاض الانتفاضة؟.

في السابق عندما كانت تندلع مواجهات ويحصل أي توتر كان يجرى محاصرته وتطويقه من خلال ممارسة الضغط الأميركي- الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية، إن كان عبر التهديد بقطع المساعدات المالية، أو حجب الامتيازات عن مسؤولي السلطة.. الخ.

وكان التنسيق الأمني بين أجهزة أمن السلطة الفلسطينية ومثيلاتها الإسرائيلية يشكل الإطار الذي يتم عبره ضبط الوضع الفلسطيني، ومنع حصول العمليات، وبالتالي السيطرة على الموقف.

أما اليوم فان الضغط على السلطة لا يحقق هذا الهدف، لأن الانتفاضة تحصل في المناطق الخاضعة بالكامل لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، ولا توجد فيها أجهزة للسلطة الفلسطينية، عدا عن أن الانتفاضة والشباب الذين ينفذون العمليات، لا مرجعية سياسية معروفة لهم يمكن للسلطة أن تمارس الضغط عليها لوقف العمليات.

من هنا فان الوسيلة الوحيدة التي يمكن عبرها تهدئة الانتفاضة تكمن في تراجع الحكومة الإسرائيلية عن سياساتها التوسعية الاستيطانية وإجراءاتها القمعية، والتسليم بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.

غير أن الحكومة الإسرائيلية ليست في وارد كل ذلك، بل أنها أعلنت عزمها مواصلة الاستيطان ورفض تقديم أي تسهيلات إلى جانب اتخاذ حزمة جديدة من إجراءات القمع، بينها ابتداع آلة تطلق النار لقتل الفلسطينيين، في حين أن كيري، وأثناء زيارته، أعلن دعمه لإسرائيل وما اسماه حقها بالدفاع عن النفس، وندد بالعمليات الفلسطينية، ولم يحمل في جعبته سوى مسعى لإحياء المفاوضات بين السلطة وإسرائيل، أما الانتفاضة فان ردها على هذه السياسة الإسرائيلية الأميركية وعلى خطة كيري لإجهاضها وإنقاذ إسرائيل كان بعملية نوعية نفذها شاب فلسطيني تمكن خلالها من دهس أربعة جنود صهاينة، بينهم مقدم، على حاجز زعترا جنوب مدينة نابلس المحتلة.

ولهذا ليس من المتوقع أن تنجح مهمة كيري في تحقيق أهدافها، حتى ولو تمكن من التوصل إلى صيغة لاستئناف المفاوضات، التي لا يرى فيها الشعب الفلسطيني سوى ملهاة إسرائيلية لمواصلة قضم حقوقه وفرض الأمر الواقع الإسرائيلي.