عندما حلّت الحروب تدريجياً في الدول العربية، دفعت المنطقة ثمناً باهظاً بإقتلاع المسيحيين من ارضهم في مناطق عراقية وسورية تحديداً. لم تكترث عواصم العالم لمحاولة سحق الوجود المسيحي في الشرق، بل وظفّت التهجير لصالحها من خلال جذب المسيحيين الى عواصم أوروبية عبر إعطائهم إقامات فورية وتسهيلات معيشية وتجهيز كنائس وتوظيف رجال دين وإنشاء أبرشيات، لمنع المسيحيين من التفكير بالعودة يوماً الى بلادهم المشرقية.

سريعاً حلّ القحط في عدد من المناطق التي خلت من المسيحيين وتمدد التطرف الإسلامي بديلاً. لم يعد العيش ممكناً بين "الدواعش". هذه حال دير الزور والرقة وارياف حلب وادلب في سوريا، او الموصل العراقية، على سبيل المثال.

لو قدّر للمتطرفين التقدم في مشروعهم، لكان تنظيم "داعش" يتخذ من لبنان قاعدة متقدمة مطلة على البحر الابيض المتوسط.

لم تحرك العواصم الاوروبية ساكناً، الاّ حين وصل الارهاب الى شوارعها. عندها أرسلت فرنسا حاملة الطائرات "شارل ديغول"، وأبدت بريطانيا جديتها للتعاون مع الروس والإيرانيين في الحرب ضد الارهاب، وعبّرت عواصم اخرى عن استعدادها للتنسيق في الحرب المفتوحة ضد "داعش".

لبنان عاش هواجس حقيقية، ولولا "حزب الله" المستنفر أبعد من حدود البلد في قتاله الإرهابيين، او الجيش الحارس لحدود مجتمعنا، لكان "الدواعش" يكررون في لبنان ما فعلوه في العراق وسوريا. من لا يعترف بذلك يتجاهل حقائق التهديد ووقائع الحدود الشرقية وعقيدة المتطرفين الذين يهددون بتدمير روما حين تتيح لهم الإمكانيات والظروف، لا الاكتفاء فقط بالوصول الى بحر لبنان. هم قادرون على ترجمة تهديداتهم. على الاقل هذا ما تثبّت في شوارع باريس منذ أسبوعين.

من المفترض ان يواجه اللبنانيون التحدي بمسؤولية وطنية. من واجبهم تظهير الاعتدال، ودعم الجيش وتفعيل المؤسسات وتعزيز مواقع المسيحيين ضد المشاريع التهجيرية. تلك ليست شعارات، بل هي واجب وطني، لانها مقومات صمود في وجه الزحف الإرهابي الذي يجتاح المنطقة.

لا يمكن الاعتماد على روسيا الاتحادية فقط، ولا على التحالفات الغربية وحملاتها العسكرية. المواجهة الوجودية تستلزم الاعتماد على اصحاب الارض. تفرض وحدة وطنية شعبية ورسمية، وفعالية سياسية، وخطة صمود معيشية اجتماعية، قبل الخطط الامنية والعسكرية.

فكيف يواجه اللبنانيون، وما هي الخطة؟

شغور رئاسي يتمدد، وجمود حكومي يُفرض، وتعطيل لمجلس النواب وتكبيل عمل المؤسسات، ومنع الحلول، والمزايدات المناطقية في موضوع النفايات حتى غمرت النفايات البلد. تفرقة وشخصانية وابتعاد عن مصالح المواطنين وتذكية الروح الطائفية والمذهبية واوهام وتكبير أحجام.

ما ان أطلّت تسوية تبدأ بإنتخاب رئيس الجمهورية، حتى تسابقت الفيتوات الضمنية. كأن البلد يعيش بأحسن حالاته من دون الحاجة الى رئيس. كأننا نكرر تاريخنا ونستحضر عام 1988. يومها مددت الازمة حرباً حتى حلّت المصلحة الإقليمية وفرضت تسوية على قياسها لا على قياس المعترضين.

اخطر ما في الامر ان السلبية كانت ولا زالت تجمع القوى السياسية المسيحية، لا وجود في قاموسهم للمبادرات الإيجابية. لو قدموا طرحاً وفاقياً لفرضوا اجماع اللبنانيين حولهم. لكنهم لا يعرفون الاتفاق الا على كلمة "لا". بالوقت نفسه يرمون الكرة في ملعب الآخرين، وينتقدونهم على اتخاذ المبادرة عنهم. مصلحة اللبنانيين هي بالمحافظة على الوجود المسيحي. ولا تكون مصلحة المسيحيين بالإتفاق على السلبية، بدليل ما يجري الآن.

اليوم يتوحد حزبا "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" على الرفض الضمني لترشيح رئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​. فلماذا لا يتوحدان على الاتفاق حول شخص الرئيس مثلاً، ايا يكن الرئيس؟

قد يقول البعض ان الفريقين لم يعلنا قبولا ولا رفضا ولم تصلهما بنود تسوية. صحيح، لكن مواطنين يرددون الآن: "ان الايجابية والوفاء يقضيان ان يكون الحليف الى جانب حليفه، ولو بالشكل، بمجرد الحديث عن طرح وصَفَهُ فرنجية بالجدي". الخطورة ان انقساماً شعبيا ترسخ. كثيرون ممن كانوا يؤيدون ترشيح العماد ميشال عون، ينتقدون سلبيته اتجاه فرنجية. تسمع ذلك بين الناس. مجرد صمت "الجنرال" وكثرة التحليلات والتنبؤات شكّل موقفاً عنيفاً عند بعض داعميه، او المتعاطفين مع زعيم "المردة" من مختلف الطوائف والمناطق. هؤلاء ينطلقون من واقع ان "لا امكانية لوصول عون الى قصر بعبدا، بحسب وقائع الأشهر الماضية، فلماذا لا ينتخب عون حليفه فرنجية طالما تجمعهما الخيارات السياسية؟"

اذا كان همّ "القوات" و"التيار" مصلحة المسيحيين، لماذا ترك الشغور الرئاسي قائماً يعزز فراغ الموقع المسيحي الاول؟

ألم يكن من الأجدى ترجمة "النوايا" في انتخاب الرئيس قبل فرض قانون انتخابي عصري، طالما ان الانتخاب هو الاولوية عند البطريركية المارونية؟

هم المواطن ايجاد حلول سياسية لفرض المعالجات للقضايا المعيشية. همه منع المخاطر الإرهابية من الوصول اليه، واجهاض مشاريع تهجيرية محتملة كما حل في دول مجاورة.

متى تسهّل القوى المسيحية انتخاب رئيس الجمهورية كباب للولوج الى استيلاد الحلول السياسية؟

اذا كان رئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية لا يمثل المسيحيين بالنسبة الى معارضي وصوله، فلماذا هو قطب من الاربعة المعترف بهم ببركة بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق المارونية؟

اذا كان رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ لا يؤيد فرنجية، لماذا لا يعلن "الحكيم" انه يتبنى ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة؟ أليس "الجنرال" هو زعيم المسيحيين الاول في لبنان كما يثبت تمثيله النيابي والإحصاءات؟

لو تم الاتفاق المسيحي على اسم عون، لحصل انتخابه فورا رئيساً للجمهورية. الكرة اساساً في ملعب جعجع. عندها سيمضي فرنجية فوراً بخيار لا يزال يتبناه بإنتخاب عون.

لماذا لا يوافق "الجنرال" على تسمية "الحكيم" رئيساً؟ اليس هو قطب مسيحي يمثل كتلة وحالة شعبية؟ طالما كتلة "المستقبل" لا تنسجم مع عون لكنها تؤيد "الحكيم".

حزب "الكتائب" لن يقف حجر عثرة امام الاثنين. الأهمية عنده لملء الشغور في المقعد المسيحي الاول في لبنان.

لماذا أيضاً لا يحصل الاتفاق على الرئيس السابق ​أمين الجميل​؟ لا تنقصه خبرة ولا دراية او لياقة وحنكة سياسية. وهو قطب من الاربعة.

أياً يكن الاتفاق المسيحي، ستوافق الكتل على خيار يريده المسيحيون. لكن القوى السياسية المسيحية عاجزة عن الاتفاق الاّ على الرفض. هنا تلتقي مصالحها. اين اتفقت تلك القوى على إيجابية او مبادرة إنتاجية؟! لذلك المسيحيون اولاً هم الضحية.

ان الذين تنطبق عليهم المواصفات التي تم الاتفاق عليها هم الأقطاب الاربعة. فإذا وضع كل قطب "الفيتو" على الآخر، ما ذنب المسيحيين؟ لا بل ما ذنب اللبنانيين؟ هل يبقون أسرى مصالح وحسابات سياسية وحزبية وفردية؟ اذا كانت المخاطر الوجودية تحيط بنا من كل جانب امني وسياسي واقتصادي معيشي ونحتاج لتفعيل مؤسساتنا، فمتى يكون الاتفاق؟ متى تحل المعجزة؟ هل كتب على اللبنانيين ان يبقوا معلّقين على حبل الانتظار؟

الغريب ان قوى مسيحية تحرّض لعدم انتخاب فرنجية، بحجة انه صديق الرئيس السوري بشار الاسد. اين المشكلة؟ معظم شخصيات قوى "14 آذار" بنت نشأتها وامجادها السياسية عبر توظيف العلاقة مع دمشق سابقاً.

الا يوجد صداقات شخصية للأقطاب والمرشحين والطامحين؟ اساساً "الجنرال" اكتسب لقب "الزعيم المسيحي المشرقي" من البوابة الدمشقية. وهذا امر طبيعي بفعل الخصوصية المسيحية من صيدنايا ومعلولا في الشام الى براد الحلبية. كان بمقدور "سوريا الاسد" ان تمنح اللقب لرئيس "المردة"، لكنه لم يطلب هو أمراً شخصياً، ولا دمشق فعلت. هكذا كانت العلاقة المتبادلة بين فرنجية وسوريا منذ نعومة أظافره.

الهروب الى السلبيّة بدا ايضاً في الساعات الماضية بإطلالة جعجع الذي أدلى بخطاب مقتضب يستند فيه الى التمسك بمبادئ "14 آذار". بدا يحمل رسائل عدة في كل اتجاه. اذا كان يتضمن رفضاً لترشح فرنجيّة بإعتبار "المارد" خارج قوى "14 آذار"، فهذا يعني رفضاً ضمنياً لعون أيضاً وفق مقياس "الحكيم"، وعدم الانسجام مع تطلعات الرابية في صياغة تحالف مع "القوات"، مقابل تمسك جعجع بتحالف أحياه بخطابه وهو رميم. فمن بقي اساساً في هذا الحلف الآذاري؟

إذا كان حزب "الكتائب" خرج ليغرد خارج سرب صار يتحكّم به "الحكيم"، وكان سبقه الحزب "التقدمي الاشتراكي"، وحلّت مبادرة "المستقبل" بترشيح فرنجية تُبعد الحريري عن حليفه جعجع. لم يبق الاّ رئيس "القوات" وفارس سعيد يحملان راية "14 آذار". لو قدّر للأخير ان يجد مساحة متقدمة، لترك "الحكيم" وحده قائداً ومناصراً لقوى اسمها "14 آذار القواتية".