أحدث الطرح الباريسي زوبعة كبيرة لا تزال أصداؤها تتفاعل حتى الآن على مستوى الاصطفافات الجديدة داخل كلّ من فريقي 8 و14 آذار، وعلى مستوى التموضعات الجديدة العابرة للفريقين. وإذا كان من المبكر تقديم القراءة النهائية لطبيعة العصف الذي يجري على مستوى كلّ فريق، فالواضح أنّ الصدمة الأولى أحدثت فعلها إلى درجة أنّ المراقب والمتابع لا يستطيع إلا أن يلاحق سرعة ما أحدثه لقاء رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري من تداعيات لا تزال حتى الساعة ظرفية.

استعجل عرابو اللقاء الاتصالات في محاولة لحرق المراحل وتمرير "السلّة الملغومة" في أسرع وقت ممكن. فهل هذه العجلة في إنجاز التسوية المرتقبة سببها الحرص على الإنجاز؟ أم أنها لتشويط الطبخة الرئاسية وحرقها؟ وهل عامل الوقت لمصلحة فرنجية أم العكس؟

إنّ تشكيل بلوك مسيحي يضمّ التيار الوطني الحر وحزبي القوات والكتائب في موقف متضامن من التسوية الفرنسية التي لم تأت على موقف الكتل المسيحية الثلاث، هو موقف محرج للرئيس الحريري، قبل أن يكون موقفاً محرجاً لحزب الله، لكون الحريري عراب الصفقة، كما أظهرت الوقائع التي كشفها فرنجية، بعد جلسة الحوار الوطني الأسبوع الفائت، والحريري هو المعنيّ الأول بموقف حليفين له، الكتائب والقوات، وإذا أضفنا إليهما موقف أكثرية المسيحيين المستقلين، باستثناء نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري، فهذا الأمر مُحرِج للحريري أكثر بكثير مما هو محرج لحزب الله تجاه رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، بخاصة أنّ حارة حريك لا يمكن تصنيفها كشريك في ما جرى في بلاد الفرنكوفون، فالحزب لم يطلق أيّ موقف حقيقي حتى الآن، ولا يمكن أن يكون معنياً بالدفاع والإحراج، كما هو وضع الحريري تجاه حلفائه المسيحيين.

إنّ تسمية فرنجية من قبل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لا يمكن أن تحصل إلا بعد التفاهم مع العماد عون، الذي يمثل قيمة مضافة بالنسبة إلى حزب الله، بغضّ النظر عن حلفاء الحزب الاستراتيجيين في 8 آذار، ورئيس تيار المردة سمع هذا الأمر من السيد نصر الله بعد الشغور الرئاسي بفترة قصيرة.

وإذا كان الحريري استطاع في خطوته هذه، أن يؤثر على واقع فريق 8 آذار في تحالفه مع التيار البرتقالي، فهل هدف الحريري الأساس إحداث شروخ داخل هذا الفريق، وهذا هدف تكتيكي، أم تسوية كبيرة تؤدّي إلى انتخاب رئيس والإبقاء على قانون الستين؟ ومَن قال إنّ لعبة الحريري هي صغيرة، رهاناً على انقسامات ليست سيفاً ذا حدّين يمكن أن تنعكس عليه وعلى تياره مباشرة؟

مَن استعجل الشيء قبل أَوانه عوقب بحرمانه. إنّ الممسكين بزمام جهود التسوية سيلهثون للحاق بمفاوضات جانبية جديدة تخفف من وطأة الفشل الجديد، بخاصة أنّ الاندفاعة والحماسة أصابتهما البرودة، والتسوية الرئاسية، كما أبلغ رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط كتلته عصر السبت تجمّدت، مؤكداً أنه لم يتخلّ عن ترشيح النائب هنري حلو.

فلماذا تجمّد الطرح؟ يقول مراقبون إنّ ما تمخض عنه لقاء باريس هو بطبيعته غير ناضج، فهناك خلاف على قانون انتخاب جديد يعتبر إقراره الخطوة الإيجابية في الطريق الصحيح لإقرار التسوية. لن يقبل جنرال الرابية بالإبقاء على قانون الستين، الذي يُصرّ عليه كلّ من الحريري وجنبلاط ويدعمه فرنجية، وإنْ كان "بيك بنشعي" لا يستطيع أن يبني موقفه من قانون الانتخاب بمعزل عن حليفين استراتيجيّين أساسيين وكبيرين له، فهو يعلم أنه إذا قُدّر له فعلياً أن يصل إلى الرئاسة فإنّ قانون الانتخاب هو أكثر ما يهمّ الرابية والضاحية الجنوبية، فهما لن يتنازلا عنه لمصلحة انتخاب رئيس للجمهورية. ينظر حزب الله والتيار الوطني الحر نظرة مشتركة ومتفقاً عليها لقانون الانتخاب، والأولوية كما عبّر عنها الأمين العام لحزب الله هي الحزمة الكاملة التي تقول بانتخاب رئيس وإقرار قانون انتخابي جديد وتشكيل حكومة، بينما عبّر الجنرال عون عن ضرورة إقرار قانون انتخابي على أساس النسبية؛ وهذا ليس تمايزاً، إنما تناغم يكاد يقترب من طرح السيد.

لن يُبصر النور انتخاب رئيس للجمهورية لمصلحة فريق 8 آذار سواء كان فرنجية أو غيره مقابل إعطاء رئاسة الحكومة لـ تيار المستقبل والإبقاء على قانون الستين، لأنّ من شأن قانون الدوحة أن يعيد انتخاب الطبقة السياسية نفسها، ويوفر عوامل مكبّلة لهذا الرئيس، تسمح في مرحلة لاحقة في تجويف دوره، وهذا تذاكٍ فارغ لن يحظى أيضاً بقبول بكركي التي تريد تصحيح التمثيل المسيحي عبر إقرار قانون انتخابي جديد متوازن.

لا يمكن للجنرال أن يتعامل مع الخبر الإعلامي، إنما مع الحدث. ولا يتوهمنّ أحد كما يؤكد مصدر مطلع مقرّب من الرابية لـ"البناء" أنّ في استطاعته أن يدقّ إسفيناً في التكتل ومع حلفاء التكتل، وأبرزهم قطعاً الحليف المقاوم. إنّ اتصالاً لم يجر بين رئيس تيار المردة والرئيس الفخري للتيار الوطني الحرّ من منطلق أن لا معطى جديد، كما يقول المصدر، فكيف لـ"العماد" أن يتعاطى مع موضوع ترشيح فرنجية إعلامياً وليس من معطى لديه واقعياً، فشيء لم يتغيّر ليطلب من أحد أن يعطي موقفاً، بدليل أنّ فرنجية نفسه حرص على طاولة الحوار الأخيرة على تأكيد مضيّه بترشيح العماد عون.

ما تخشاه الرابية أنّ السلة المتكاملة التي طرحها السيد نصر الله لحلّ الأزمة اللبنانية هي المستهدَفة، لأنها كلّ لا يتجزأ وتنص على انتخاب رئيس للجمهورية وإقرار قانون انتخابي جديد يعيد تكوين السلطة وتشكيل الحكومة، بخاصة أنّ جلسات الحوار الوطني السابقة وجلسة تشريع الضرورة الأخيرة قضتا على ما يسمّى أولوية انتخاب الرئيس، بمعنى أن لا أولوية تعلو فوق صوت أولوية أخرى في مقاربة حلّ الأزمة. وبالتالي ترفض الرابية كلياً، كما يقول المصدر، ما يتمّ تسويقه من أنّ قانون الستين أصبح ثابتاً. ومن هنا يصبح الكلام متاحاً رئاسياً وحكومياً، على ما قال حليفها النائب طلال أرسلان في إشارة واضحة إلى مآل الأمور، وهو الصديق الصدوق الأقرب للنائب فرنجية. لذلك، فإنّ ترفّع الجنرال عن حفلة المزايدات والسجالات تلك هو موقف ينطلق من التصدّي للاستدراج على الساحة اللبنانية، فالرابية كبنشعي تعرف تماماً أنّ الأولوية هي لما يحقق إعادة إنتاج الدور المسيحي في النظام بدءاً من صحة التمثيل النيابي وعدالته، فعندئذ ستنهض السلطات والمواقع صحيحاً.

إنّ سمة المرحلة التروّي والهدوء ورصّ الصفوف لدى فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر، في مقابل التخبّط الملحوظ والشرذمة والفوضى لدى فريق 14 آذار، لا سيما تيار المستقبل، كما عند حلفائه الطارئين، وظهر ذلك في اتصال "التمويه" الذي أجراه الحريري مع فرنجية بأنه لا يزال يدعم ترشيحه، بعد تراجع جنبلاط عن تسميته، كما كان متفقاً عليه في العاصمة الفرنسية وإعلان تمسكه بترشيح حلو، واضطرار أمين عام "المستقبل" أحمد الحريري إلى تذكير فريق 14 آذار أول أمس، بأنّ صوت سعد الحريري يعلو كلّ صوت، وأنّ الأمرة له.

وأمام ذلك لن يُستدرَج الحزب والتيار إلى نعم أو لا متهوّرة بغياب الحدث، وحضور مجرد الخبر، والعماد عون كان واضحاً جداً أنه لا يتعاطى مع الغيب ولا يحبّ الضرب في الرمال وكان حريصاً على فريقه، وزراء ونواباً، أن يضبطوا إيقاع الكلام على موقف الرابية الذي لا يمكن استدراجه إلى حيث يريد الآخرون.