كلّما تقدّمت المراحل باتّجاه إيجاد الإطار الملائم للتسوية في المنطقة، ازدادَ التوتّر وأصبح الوضع أكثر خطورة. في العادة تَروي دروس التاريخ بأنّ الحلول والتسويات للأزمات الكبرى يجب أن تسبقها محطات ساخنة ودموية، فهل هذا ما ينطبق على واقعنا اليوم؟

وزير الخارجية السوري وليد المعلم قال إنّ المواجهة الروسية – التركية الحاصلة لن تؤدي الى ضرب مؤتمر فيينا القادم، ما يعني بأنّ التوتر المتفاقم والخطير لن يتجاوز الخطوط الحمر المرسومة، وهو سيبقى تحت السيطرة وسيشكّل حافزاً لإنجاز المفاوضات. لكنّ موسكو وأنقره تلعبان في مربّعات المصالح الحيوية للفريقين.

فبعد زيارة بوتين لطهران نجحَت موسكو في رسم واقع جديد لمصالحها الحيوية تشكّل فيه ايران ممراً ممتازاً لروسيا باتّجاه المياه الدافئة، فيما بدت ايران اكثر ثقة في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. القيادة الروسية فتحت ابواب استثماراتها في ايران وتفاهمت مع القيادة الايرانية على مشاريع يستفيد منها الجانبان.

فإيران التي تنوي تجديد اسطولها الجديد مثلاً تفاهمت مع موسكو على إقامة معامل لإنتاج الطائرات المدنية على الاراضي الايرانية بحيث تكتسب ايران خبرةَ التصنيع وتصبح في نهاية المطاف مؤهّلة لإنتاج طائرات مدنية خاصة بها. وبدت انقرة تخسر الكثير من نقاط قوّتها في علاقتها مع موسكو لصالح ايران.

ويَعتقد المراقبون أنّ إيران كانت في أوج فرحها عندما أسقطت الطائرات التركية الطائرة الروسية. ذلك انّ القيادة الايرانية تسعى لتعزيز علاقتها اكثر بروسيا على حساب تركيا، والاحتكاك الروسي – التركي يعجّل بذلك.

كذلك فإنّ القيادة الايرانية تراهِن على تورّط متدرّج لروسيا في سوريا. صحيح انّ الرئيس الروسي ردّد اكثر من مرّة خلال زيارته التاريخية لايران بأنّ لمهمّة الطائرات الروسية في سوريا برنامجاً زمنياً لن يتخطّاه، إلّا أنّ طهران تدرك بأنّ فتح ابواب الحرب الباردة بين روسيا وتركيا سيؤدّي الى تورّط روسي اكبر في سوريا قد يصل الى حدود استخدام قوّات المشاة في نهاية المطاف، وهو ما تَرغب به القيادة الإيرانية بشدّة كي تذهب لحسم عسكري تجري ترجمتُه انتصاراً كاملاً في معادلة التسوية السياسية.

لكنّ الاوساط الديبلوماسية الاميركية تحمل قراءة أخرى. فبالنسبة إليها تبدو القيادة الروسية متمسكة بعدم تكرار مستنقع أفغانستان. وإنّ التطورات العسكرية الاخيرة بينها وبين تركيا لن تذهب بعيداً ولو أنّها ستؤدي الى جفاء كبير في العلاقات بين البلدين.

وبالتالي فإنّ هذه الاوساط تعتقد انّه سيَجري استثمار ما يحصل لمصلحة تدوير الزوايا ودفع التسوية حول سوريا، مثلاً، إنّ الضغط الروسي سيساعد في إزالة الوهم نهائياً لدى تركيا حول إمكانية إنشائها المنطقة العازلة أو بتعبير أوضح منطقة صافية لها، كما سيَدفع تركيا الى قطع كلّ علاقاتها مع «داعش» ووقفِ كلّ أشكال الدعم الخلفي لها، ما سيُسهّل لاحقاً العملية البرّية، إضافةً إلى إضفاء ليونة اكبر حول المدّة الانتقالية لبقاء الأسد بعدما كان يُبدي الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان إصراراً على فترة لا تتجاوز ستّة أشهر. باختصار، إنّ الاوساط الديبلوماسية بقيَت على آمالها المتفائلة، خصوصاً أنّ المفاوضات اليمنية - اليمنية بين السلطة والحوثيين باتت قريبة.

لبنان

وانطلاقاً من هذا المناخ المتشابك ولكن الذي يحتضن آمالاً تفاؤلية، كان لبنان يعيش الموجة نفسَها. مبادرة لإنهاء الشغور الرئاسي وإنجاز تسوية سريعة موَقّتة تصطدم بعقبات وتؤدّي إلى تجميدها.

ولم يعُد هنالك من شكّ في أنّ مبادرة ترشيح ​سليمان فرنجية​ حظيَت بغطاء دولي، بدءاً من السعودية مروراً بباريس ووصولاً إلى واشنطن، وقيل إنّ طهران لم تكن بعيدة عنها. لكنّ العارفين يتحدّثون عن موافقة دولية وليس عن استعداد لفرضِها، والفَرق واضح ما بين الموقفين.

وعلى الرغم من العراقيل العقبات التي ظهرت على الساحة اللبنانية منذ الكشف عن لقاء الحريري - فرنجية، وبالتالي عن التسوية المطروحة، إلّا أنّ الرئيس سعد الحريري ما يزال مقتنعاً بأنّ هذه التسوية ستحصل في نهاية المطاف.

وخلال تواصُله هاتفياً مع الكثير من السياسيين اللبنانيين اعتبَر الحريري أنّ العمل جارٍ الآن لاستيعاب المواقف المعترضة، على أن يجري تزخيم المبادرة فوراً بعد ذلك.

وكرّر الحريري أمام هؤلاء أنّ هذه التسوية تَحظى بالموافقة الإقليمية والدولية المطلوبة. وهذه العقبات التي ظهرَت أدّت إلى تأجيل إعلان كتلة جنبلاط قرارَها بسحب ترشيح هنري حلو وإعلان دعمها لترشيح فرنجية. التأجيل الأوّل كان ليوم أمس الأحد وأمّا التأجيل الثاني فكان مفتوحاً ومِن دون تحديد موعد زمني.

كذلك فإنّ الرئيس الحريري كان يُزمع إعلان الموافقة على ترشيح فرنجية رسمياً من خلال برنامج «كلام الناس» في المؤسسة اللبنانية للإرسال مساء الخميس الفائت، إلّا أنّه عاد وأجّل ذلك، في وقتٍ كان بدأ يَميل لأنّ يعلنَ ذلك بنفسه من بيت الوسط بعد اجتماع لكتلتِه يُعقد في 7 أو 8 كانون الأوّل. ذلك، وحسب أصحاب هذا التوَجّه أنّه لا يمكن للحريري تبنّي ترشيح فرنجية من الخارج، وأنّ ذلك سيُشكّل مناسبة مثالية لعودته إلى بيروت. لكنّ العقبات التي برزَت من المحتمل أن تؤجّل هذا الموعد أيضاً.

وفي كواليس الرئيس بري أنّه كان يستعدّ للدعوة لجلسة لمجلس النواب لانتخاب رئيس جديد (فرنجية) في 17 أو 18 كانون الأوّل، وذهبَت المشاورات الجانبية إلى أبعد من ذلك وتركَّزَت حول احتمال مقاطعة كتلتَي عون والقوات، وتَردَّد أنّ توجّهاً جدّياً ساد بعَقد الجلسة بمن حضر مع قناعة بتأمين النصاب.

لكنّ الحريري الذي كان سمعَ من رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل موافقتَه، صُدم عندما عاد وسمع منه لدى عودته الى لبنان وضعَ شروط تؤدّي إلى محو موافقته.

وعندما زار الوزير وائل ابو فاعور الجميّل سائلاً إيّاه عن سبب تعديل موقفِه، أجاب الجميّل أنّه لا مجال بالسير في مشروع كبير بهذا الحجم إذا لم يتوفّر شرطان: الأوّل إعطاء فرنجية توضيحاً من مسألة تصَوّره للعلاقة مع سوريا ومع «حزب الله» خلال رئاسته، والثاني، وهو الأهمّ، إعلانُ رفض إجراء الانتخابات النيابية على أساس قانون الستّين.

ولذلك أرسَل الجميّل وفداً حزبياً إلى كلّ مِن الرابية ومعراب ناقشَ فقط موضوع قانون جديد للانتخابات. وبالنسبة لسمير جعجع، قيل إنّ الحريري تواصَل معه هاتفياً وسأله عن سبب اعتراضه، وردّ جعجع بأنّ هذا الخيار قاتلٌ له، ولا يمكنه السير به بأيّ شكل من الأشكال. لكنّ الحريري عاد وقال له بأنّه (أي جعجع) تفاوَض في مرحلة سابقة مع فرنجية حول إمكانية دعم ترشيحه وأنّ فرنجية كان لمسَ مرونة بموقفه. لكنّ جعجع بقيَ على موقفه الرافض بقوّة لوصول فرنجية مهما تكن الإغراءات.

وأمّا العماد عون فكان حازماً خلال تواصُله مع حزب الله من خلال الوزير جبران باسيل، وتمسّك عون بآخر كلمة قالها معاون السيّد حسن نصرالله الحاج حسين خليل بأنّ حزب الله لن يضحّي بعلاقته مع العماد عون أياً تكن الظروف.

ولدى استقبال عون ديبلوماسيّين حاوَلوا استكشافَ موقفه الفعلي، قال عون: عن أيّ تسوية تتحدّثون؟ أنا لم يفاتِحني أحد بشيء، وعندما يصِلني عرضٌ كامل يتضمّن في أوّل بند منه قانوناً جديداً للانتخابات، عندها نتحدّث. أمّا اليوم فلا علمَ لي بوجود شيء رسمي كي أعطيَ موقفي بشأنه.

وخرجَ هؤلاء الديبلوماسيون باستنتاج أنّ عون متصلّب في رفضه، وهو في الوقت نفسه يتّكئ على سنَد مطمئن له وهو حزب الله على الأرجح.

من هنا تساءلَت هذه الأوساط عن الموقف البارد لحزب الله، ذلك أنّه برأي هذه الأوساط أنّ حزب الله لم يقُم بضغوط جدّية وإلّا لكانت الأمور مختلفة.

لا بل إنّ هذه الأوساط تذهب الى أبعد من ذلك لتتساءَل عن سبب تسريب اللقاء الذي حصَل بين فرنجية والحريري، وما إذا كان الهدف منه «خنق» التسوية في مهدِها، خصوصاً وأنّ مصدر التسريب فريق 8 آذار، والاسمُ بات معروفاً.

وهذا يستتبع السؤال ما إذا كان ذلك يمكن عطفه على موقف الفريق المتشدّد في إيران والذي يريد حسماً عسكريا في سوريا قبل الذهاب الى تسوية سياسية، وإبقاء الواقع اللبناني خارجَ إطار التسوية بهدف تركِ المؤسسات تهترئ، ما يَفتح الباب حكماً لوُلوج الجمهورية الثالثة عبر المؤتمر التأسيسي.

وعلى عكس هذه الأجواء، فإنّ مناخ بنشعي ما يزال إيجابياً. أجواء الحريري زادت من تفاؤله بأن الأمور ذاهبة حكماً إلى نهاية سعيدة، وحتى اجتماعه بالأمس مع الوزير جبران باسيل كان جيّداً، بعكس الأجواء والسجالات الإعلامية. في كلّ الأحوال هنالك من بدأ يقول إنّ احتمال نجاح التسوية يَعتمد على موقف حزب الله وإنّ الحظوظ هي 50 بالمئة.

وأمّا إذا تجاوَزنا منتصف كانون الأوّل من دون التوصّل إلى إنجاز هذه التسوية، فإنّ الأوساط الديبلوماسية ستضغَط لكي يُعاد فتح أبواب مجلس الوزراء كي تعود الحركة إلى المؤسسات ويَجري إنقاذ الحد الأدنى لمقوّمات استمرار الدولة ومنعُها من الانهيار، بانتظار خرقٍ كبير يأتي من الساحة السورية.

وهذا ما ردّده مصدر ديبلوماسي أميركي لزوّاره من السياسيين اللبنانيين.