لم يأخذ الرئيس سعد الحريري على نفسه وابل الثناءات والشتائم عن عبث، ولم يُسكِت بعض أصوات النشاز من الصقور داخل تياره عن عبث، ولم يدفع بأحمد الحريري الى الارتفاع بصوته (سعد) فوق كلّ الأصوات عن عبث... ربما هو مخطّطُ حرق ورقة سليمان فرنجية وربّما هو مخطّطُ تعويمه، الأكيد أن مخطط الرابية ومعراب وبكفيا لم يُكتَب بصيغته النهائية بعد.

في الأمر جسُّ نبضٍ صريح ينتهجه المرشّح الافتراضي لتيار المستقبل سليمان فرنجية في كلّ لقاءٍ يجمعه بحليف اليوم أو خصم الأمس. جسُّ نبضٍ قد لا يتجاوز أعتاب الرابية التي إن منحته ثقتها مضى بقلبٍ قويٍّ نحو رئاسةٍ ميثاقيّة، وإن لم تفعل بقي حيثما هو يتساءل: لمَ قد يرفضني أبي السياسي؟ من دون أن يقفز الى رأسه أغلب الظنّ سؤالٌ مرتبط بالنية وراء ترشيحه الفجائي من خصومه في السياسة على شاكلة: ما المغزى سعوديًا من قبول ترشيحي؟

استعجال حريريّ

لا يبدو أن الأمور على أتمّ ما يُرام بين الرابية وبنشعي، فالعماد ميشال عون لم يلتقِ حليفه المتجذّر بعد، ولكن لإيضاح الصورة ووضع حدّ لكلّ “قيل وقال” كان لا بدّ لرئيس التيار جبران باسيل أن يفهم حقيقة ما حصل في الدار الباريسية تلك الليلة، وحقيقة توجُّه فرنجية في هذه المرحلة الحساسّة التي يبدو أنها تنطوي على استعجالٍ حريريٍّ لإنهاء الملفّ الرئاسي. كثيرةٌ هي السيناريوهات التي وصلت الى مسامع الرابية وقضّت مضاجع ناسها الذين رفضوا تصديقها من دون إجهاضها. هو السؤال المشروع المرتبط بالوعود التي قطعها فرنجية على الحريري لينال بركته وثقته الرئاسيّتين. لا يهضم أبناء “المردة” تشكيك الرابية في وفاء رئيسهم، ومع ذلك يجدون لأنفسهم مساحةً لتسويغ بعضٍ مما يُهمَس به. ليست الرابية صمّاء، وسيناريو “تمريرة” قانون الستين وصلها كشمس النهار وهو ما أثار شكوكها، أما السيناريو الأبعد والذي لا يبني عليه العونيون فيكمن على ما علمت “البلد” في وعدٍ “بطيّ الصفحة المالية الحريريّة السوداء منذ العام 2003، وهي صلب الحرب الإصلاحية التي يقودها التيار الوطني الحرّ منذ عودة عماده والتي تُرجمت في غير مناسبة بدت أكثرها صراحةً محطة إصدار كتاب “الإبراء المستحيل”. ليس الأمر جديًا الى هذا الحدّ في الرابية ومع ذلك لا ينفكّ الفأر “يلعب في عبّها” طارحًا تساؤلاتٍ جمّة عن سرّ هذه الاندفاعة الطارئة لفرنجية نحو كرسي بعبدا، رغم أن عون أكد ليلاً أنه لم يُبلَّغ رسميًا بالتسوية الباريسية.

تأطير الخطوط العريضة

لم يتأخّر فرنجية في تأطير الخطوط العريضة للتسوية ومساراتها. ففي لقائه مع باسيل أمس، كانت البرودة هي بطلة المكان على ما علمت “البلد”. تلك البرودة التي تتجاوز الدفء والانصهار المعهودين وتلامس حدود الفتور من دون أن تتجاوزه الى خلافٍ مستدام أقله حتى الساعة. انتظرهما الجميع، ليقرؤوا في بيان بنشعي ما لم يُثلِج قلوبهم الحريصة على عدم كسر الجرّة بين الفريقين: سليمان بكّ رفع سقفه الزمني فبدا الكلام أشبه بإمهال عون مدّة زمنية محددة مخافة أن يطير العرضُ الحريري الذي يحمل صفة “المستعجل” غير المُكرَّر، طالما أن ترشيحه جدّي، أما إذا اتّضح أن المماطلة هدفها تعطيل ترشيح فرنجية فللأخير حديثٌ وموقف آخران. رفعُ السقف ذاك، مُضافًا الى صراحة الرجل يوم جدّد تمسّكه بترشيح العماد عون حتى هذه اللحظة وأكد أنه في المقابل مرشّحٌ جدّي، يعزز شكوك الرابية بقطبةٍ مخفيّة قد تكون مختبئة في إحدى العباءات الإقليمية ربطًا بالثوب الجديد الذي يُحاك للمنطقة.

كلامٌ عالي النبرة

وإذا كان موقفا القواتيين والكتائبيين شبه محسومين لصالح رفضٍ له مسوّغاتُه مع كلمة “شكرًا ومردود”، فإن كلّ الأمور تبدو مرهونةً بجوابٍ نهائيٍ من الرابية، يتوقّع بعض كوادرها أن يكون سلبيًا عقب اللقاء الذي جمع فرنجية بباسيل والبيان “عالي النبرة” الذي صدر عن مكتب الأول. وإذا كان بعض الأفرقاء يطالبون فرنجية بضماناتٍ لمنحه ثقتهم، وعلى رأسهم الكتائبيون في الظاهر، فإن ضمانة عون الأقوى هي عدم تجاوز حزب الله لإرادته رغم تعاطفه التلقائيّ مع فرنجية. وهنا تفوق ثقة الرابية بحليفها الشيعي أيّ مزايداتٍ أخرى وأيّ تسريباتٍ من قبيل عرض أحد رجال الأعمال الملازمين لفرنجية مبلغًا طائلاً على عون لسحب ترشيحه. كلُّ ذلك يبدو تُرّهاتٍ ولا يُطعِم البرتقاليين خبزًا حيًا لو لم يكونوا على أتمّ اليقين بأن السير في أي تسويةٍ من دونهم أمرٌ شبه مستحيل فكم بالحريّ إذا امتدت لهم يدا القوات والكتائب.

وعدٌ ثلاثي

أحبّ فرنجية على ما يبدو اللعبة الرئاسيّة. دغدغته كما تدغدغ سواه وفق حقٍّ مشروع منحه إياه الزعماء الموارنة الثلاثة الآخرون (عون-جعجع-فرنجية) أمام الله وسيّد بكركي يوم اجتمعوا ليؤكدوا أن مواصفات الرئيس القوي لا يمكن أن تنطبق إلا على واحدٍ منهم. هي ورقته القويّة التي تقابلها أوراقُ ضعفٍ من شأنها أن تحرق الطبخة تتقدمها ورقة التنازلات التي سيكون الحريري مستعدًا لتقديمها لعون في الدرجة الأولى وحليفيه المارونيين في 14 آذار في الدرجة الثانية، ناهيك عن أوراق كاسبة لن يتجاوزها الجنرال بسهولةٍ وعلى رأسها ثلاثة شروط: قانون انتخاب يروق له وللقواتيين؛ قائد للجيش يروق له ويكون ابنَ مدرسته العسكرية، وإن لم يكن شامل روكز هو المُستدعى من الاحتياط فسيكون وزيرًا تليق به إحدى الحقائب السيادية في مرحلة التأليف ما بعد التكليف؛ وأخيرًا، المناورة على اسم سعد الحريري للرئاسة الثالثة طالما أن هناك منافسين سنّة له وطالما أن الخيار الرئاسي لم يقع على الماروني الأكثر تمثيلاً وشعبيّة، وبالتالي ما يجوز على الرئاسة الأولى من مفاوضات يجوز على الرئاسة الثالثة بحذافيره.

الرجل أذكى...

كلُّ تلك الحسابات تبدو واهية في ميزان عارفي فرنجية عن ظهر قلب. فهؤلاء واثقون من أن الرجل أذكى من أن يقدّم تنازلاتٍ يعلم مسبقًا أنها ستسوّد صفحته مع حلفائه وعلى رأسهم عون، كما أنه أوعى من أن يمنح ثقةً مطلقة للحريري كونه “لم يمت لكنه رأى من مات قبله” بسبب وعودٍ واهية. وأبعد من ذلك ينقل بعضُ المطّلعين على ملفه تأكيدًا صريحًا بأنه استهلّ حديثه مع الحريري بالتشديد على عدم مساومته على ثوابته الوطنية وعروبته وحلفه مع الرئيس بشار الأسد وتمسّكه بالمقاومة مفهومًا وفعلاً. وعليه، لا يبدو الذهاب بعيدًا في الأفكار المتشائمة “السفسطائيّة” في مكانه بالنسبة الى محبّيه، إلا إذا كان من يريد فرملة تسويته يقولها جهارًا: أنا أو لا أحد، من باب التعطيل من أجل التعطيل المزاجي. في نفوس هؤلاء سؤال يتيم: إذا كان عون لن يقبل بفرنجية حليفه، فبمن سيقبل إذاً؟

لن يرضى “بالاختبار”

إذاً، لم تعد حكاية مواصفات بل وقت وتنازلات وشروط. قد يكون هذا الأسبوع حاسمًا بالنسبة الى اكتمال “البازل” الرئاسي الذي يشكل فرنجية بطل قطعه المتناثرة في أروقةٍ عدة. حكمًا لن يرضى عون بأن تصله تسويةٌ جاهزة هو غير شريكٍ فيها لا بل صنعها له الحريري، تمامًا كما لن يرضى بأن يُخضِعه فرنجية لما يُشبه “المرحلة التجريبيّة” التي تختلف الأمور بعدها وتصبح أكثر جرأةً وتنصُّلاً. حتى الساعة ما زال فرنجية يبيع عون بعض المواقف “الأبويّة” ولا يأبه كثيرًا لما سيفعله القواتيون والكتائبيون، لكنه يعلم أنه عندما تحزّ الحزيّة ويصبح ترشُّحه رسميًا لن يستطيع تجاوز الرابية... وقبلها حارة حريك الملتزمة بوثيقة وعهد.