ما يدلّ على جدية ترشح النائب ​سليمان فرنجية​ الى رئاسة الجمهورية، هي كمية السهام التي تصوّب نحو بنشعي. إمكانية وصوله الى بعبدا ممكنة جداً، لكن زعيم "المردة" لا يرضى أن يكون رئيس مواجهة، وخصوصاً ضد قوى مسيحية، وتحديداً حليفه "التيار الوطني الحر". هذا ما يقوله المطّلعون على مسار التواصل السياسي المفتوح.

لم يُسجّل أي رفض لشخص فرنجية، على الأقل علناً، بل كان التصويب يستهدف بشكل اساسي مشروع القانون الانتخابي المطروح من ضمن سلة التسوية، في حال صحّت رغبة "تيار المستقبل" بتثبيت "قانون الستين" القائم حالياً.

هنا يوحي معارضو وصول فرنجية أن صفقة اعدها "الثلاثي بري-الحريري-جنبلاط" لانتخاب فرنجية. محور هذا الكلام وابعاده يستهدفان بشكل أساسي "زعيم المردة" للقول أنه أسير رغبته بالوصول الى بعبدا مهما يكن، وهو يسير بطريق تتناقض مع دمشق وطهران وكل "محور المقاومة". لكن في الحقيقة الوقائع مختلفة تماماً.

ببساطة، عندما تحدث الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله عن التسوية الشاملة، كان يستحضر كل البنود التي طرحها رئيس المجلس النيابي نبيه بري على طاولة الحوار، من انتخاب رئيس للجمهورية الى وضع القانون الانتخابي الى الحكومة ورئيسها. مجرد هذا الطرح من "حزب الله"، يعني مد اليد لتيار "المستقبل" بشكل أساسي، لان "التيار الأزرق" هو المقصود.

هل يُعقل أن يكون السيد نصرالله قصد التسوية مع "الجماعة الإسلامية" أو "الوطنيين الأحرار" مثلاً، وليس النائب ​سعد الحريري​؟!

عملياً كان السيد نصرالله يُعلن عن الاستعداد لفتح صفحة جديدة وعدم انتظار الخارج او اي حدث داخلي. لا يُمكن أن تُفتح تلك الصفحة من دون تسوية الخلاف السياسي الجوهري مع الحريري. البديل عن "المستقبل" هو التطرف المستتر التابع اما لتنظيم "داعش" ضمناً، او مناصر لجبهة "النصرة"، او آخر عاجز عن الحل والربط.

لو لم تكن نية الحزب هي التسوية مع الحريري تحديداً، ما كان وافق "حزب الله" سابقاً على تلبية دعوة بري للمشاركة في حوار عين التينة. هذا الحوار مخصص لفريقين فقط: الحزب والتيار. رغم كل الزلازل السياسية التي ولّدتها الازمة السورية أو حرب اليمن أو التوتر السعودي-الإيراني، استمر هذا الحوار ولا يزال من دون توقف، بمباركة إيرانية وسعودية ودولية.

صنعُ الحوار وادارته في الظروف الاصعب، شكلا خطوة فريدة. هنا تكمن أيضاً اهمية الأدوار الجامعة التي يقوم بها بري. باتت حاجة وطنية تقدّرها الجماهير والعواصم الصديقة. هي خطوات منعت العواصف من اجتياح لبنان، وأتاحت لـ"حزب الله" التفرغ لمعاركه الوجودية الاستراتيجية على جبهات عدة، جنوبية او شرقية.

موقف الامين العام لـ"حزب الله" المنفتح في خطاب طرح الحل، إما جاء تمهيداً لإعلان تسوية شارك سراً بوضع خطوطها العريضة، فظهرت تفاصيلها فيما بعد عبر لقاء الحريري-فرنجية، وإما محاكاةً لحوار صنعه رئيس المجلس النيابي، فلاقاه نصرالله بالتنسيق معه في منتصف الطريق.

في الحالتين أنتج الموقف تفاعلاً إيجابياً عند الحريري. وهكذا بدا أن تيار "المستقبل" هو المقصود سواء في حوار عين التينة او دعوة نصرالله او حركة فرنجية.

تتكامل الخطى بين الثلاثي "حركة امل-حزب الله-المردة". تختلف الأساليب وتلتقي الغايات.

لا يمكن ابداً فصل اهداف "الثنائي الشيعي" وفرنجية عن بعضهم البعض. اياديهم كانت ممدودة معاً الى "المستقبل" للمصافحة او الترحيب. من يفهم سر هذا التكامل جيداً لا يستبعد او يستغرب او يستنتج سيناريو آخر.

التاريخ يحكي روايات المقاومة العسكرية والسياسية والعلاقة المعمّدة بالدم مع سوريا، او التنسيق في صنع الحكومات. كانوا يتناوبون او يتكاملون في صنع الأدوار الوطنية، اما في تقريب وجهات النظر في لبنان، او مثلا في محطات التخلي عن حقائب وزارية لاستيلاد الحلول الحكومية: الم تتنازل حركة "امل" عن مقعد شيعي وحقيبة معاً للوزير السُني فيصل كرامي؟ كانت يومها تلك الخطوة سابقة في تاريخ لبنان الحديث. ايضاً الم يتنازل تيار "المردة" عن حقيبته الوزارية مكتفياً بوزير من دون حقيبة- كان يومها يوسف سعاده- كرمى لحليفه "التيار الوطني الحر"؟

تيار فرنجية نفسه دفع دماً ثمن خياراته السياسية منذ الثمانينات، بسبب التزامه بالنهج العروبي القومي والعلاقة مع دمشق، وثم تبني خط المقاومة والدفاع عنها في كل المراحل. اهل المقاومة يعرفون "الأصيل". هذا ما يتردد اليوم في أحاديثهم.

من ناحية "الثنائية الشيعية"، يستحضرون دوماً كلام بري المعبّر رداً على كل ايحاء بوجود خلاف او فراق بين الحزب والحركة: يروحوا يخيطوا بغير هالمسلة.

سابقاً جرى اتهام "الثنائية" نفسها بمحاولة فرض نظام جديد على اساس "المثالثة"، ليتبين لاحقاً ان الاتهام لا مكان له، بدليل تمسك "الثنائية الشيعية" بإتفاق "الطائف". هذا ما يؤكده دوماً رئيس المجلس النيابي، وما اشار اليه علناً الامين العام لـ"حزب الله" في كلمته الاخيرة.

اذا كان ثمة من طرح جوهري للنظام الجديد، فهو الذي حاولت حركة "امل" تسويقه: الغاء الطائفية السياسية، واعتماد صيغة انتخابية على اساس النسبية ولبنان دائرة واحدة. لكن ماذا كان الجواب؟ الم تصطدم مجرد دعوة رئيس المجلس لانشاء هيئة وطنية لدراسة السبل لإلغاء الطائفية السياسية بالحسابات الطائفية والتوازنات الدقيقة في لبنان؟

في الغاء علة لبنان يكمن إصلاح النظام بصورة جذرية. عندها تكون الدولة المدنية عقداً اجتماعيا، متوازناً، عادلاً، مخلصاً للبنانيين من الحسابات والمزايدات.

بجميع الاحوال، إن العلاقة المتينة بين "الثنائية الشيعية" و"المردة" لا يمكن لها ان تفرض رئيساً للبنان ولا هي تسعى اساساً، بمعزل عن تفاهم وطني جرى التأكيد عليه في جلسة حوار عين التينة الاخيرة. ولا تغيّر تلك العلاقة من التزام سياسي مُعلن، كما اظهر بيان "المردة": الأولوية لترشيح عون اذا كانت النية فعلية للتوافق عليه، واذا استمر الترشح فقط لتعطيل ترشيح فرنجية فهذا موضوع اخر.

مع العلم ان موقفاً واحداً لم يسجل أبداً لا لحركة "امل" ولا "لحزب الله" في موضوع ترشح فرنجية حتى الآن، لا سلباً ولا ايجاباً. لا تزال الامور في الدائرة المسيحية، قبل أن تخرج الى الإطار الوطني في حال تم التفاهم.