بعد انتهاء "مخاض" رئاسة "التيار الوطني الحر" التي ذهبت بـ"التزكية" من المؤسّس العماد ميشال عون إلى الوزير ​جبران باسيل​ تحت شعار "الديمقراطية التوافقية" التي لطالما نبذها "العونيّون" أنفسهم، تطلّع كثيرون إلى الانتخابات المناطقية، معتقدين أنّها ستعيد معها "التيار" إلى عرينه الأساسي، ليجسّد "عرس الديمقراطية" بكلّ ما للكلمة من معنى.

ولكن، ووفق قاعدة "ما كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه"، تحوّلت هذه الانتخابات سريعًا من "نعمة" إلى "نقمة"، وخلقت حالة بلبلة وإرباك وتشويش داخل "التيار"، بل حتى "هستيريا"، على حدّ وصف البعض، ممّن ذهبوا لحدّ الحديث عن "تململ" لن تكون تداعياتُه بسيطة...

كلمة السرّ...

سريعًا، طوى "العونيّون" صفحة وصول الوزير جبران باسيل إلى رئاسة "التيار"، بعد انسحاب "منافسه" النائب آلان عون على طريقة "الترغيب" وربما "الترهيب"، كما يقول البعض "همسًا". فعلى الرغم من ظهور ملامح "معارضة داخلية" قد تكون الأولى من نوعها في تاريخ "التيار" على خلفية التطورات التي واكبت الانتخابات الرئاسية الداخلية، كان لسان حال جميع الناشطين أنّ ما حصل قد حصل، وأنّ الانتخابات المناطقية آتية وأنّها هي الفيصل.

وبالفعل، لم يتأخر رئيس "التيار" الوزير جبران باسيل في توجيه الدعوة بشكلٍ رسمي لهذه الانتخابات، من خلال تعميمٍ حدّد بموجبه موعدها في السابع عشر من كانون الثاني المقبل، على أن تشمل هيئات ومجالس الأقضية والهيئات المحلية، ليُفتَح باب الترشح بعدها الى المجلس الوطني ولجان المرأة، الانتشار، الشباب والبلديات.

وإذا كانت الدعوة بحدّ ذاتها "مطلبًا جماهيريًا" داخل "التيار"، فإنّها بدت بالنسبة لكثيرين "ملغومة"، انطلاقًا من "كلمة سرّ" حملتها، وقضت على كلّ "جوهرها"، وهي أنّ الانتخابات ستحصل "وفق سجلّ النفوس لا مكان السكن"، علمًا أنّ النظام الداخلي لـ"التيار" يخيّر أعضاءه عند انخراطهم في صفوفه بين الانتساب إلى هيئةٍ محليةٍ مناطقيةٍ وفق قيدهم أو سكنهم "حسب اختيارهم"، كما ورد حرفيًا في النظام، في حين أنّ التعميم الجديد يحرم من اختار الانتساب إلى هيئةٍ ما "وفق سكنه" من حق الاقتراع والانتخاب في مكان نشاطه.

مبرّرات وتفسيرات...

لا يتجاهل فريق وزير الخارجية في "التيار" الانتقادات التي بدأت تخرج رويدًا رويدًا من دائرة "الهمس" لتصبح "علنية"، ولكنّه يعتبرها "مضخَّمة" و"مبالَغًا بها" إلى حدّ بعيد. برأي هؤلاء، فإنّ هذه الخطوة لم تأتِ من العَدَم، ولا صفقات أو مؤامرات من ورائها، وهي بالتأكيد لا تهدف إلى "تعويم" فريقٍ على حساب آخر في بعض الأقضية، وكلّ ما في الأمر أنّها بمثابة "بروفا تحضيرية" للانتخابات النيابية.

يحرص هؤلاء على لفت الانتباه إلى أنّ الخطوة لا تشكّل مخالفة للنظام الداخلي لـ"التيار"، كما ذهب البعض إلى القول، فالتغيير "الانتخابي" لن يؤدّي بشكلٍ من الأشكال إلى حرمان أيّ ناشطٍ اختار الانتساب إلى هيئةٍ معيّنة وفق مكان سكنه، إلى مواصلة نشاطه في هذه الهيئة، فـ"إلزاميّة" الاستناد إلى "مكان النفوس" محصورة في نقطتَي الترشح والاقتراع، على أن يبقى "النشاط السياسي" كما كان.

قد يقول قائل أنّ ذلك يعني أنّ هؤلاء الناشطين سوف ينتخبون مسؤولاً محدّدًا في مكانٍ معيّن، ليعودوا في اليوم التالي ليواصلوا مهامهم تحت إدارة مسؤولٍ آخر لم يكن لهم رأيٌ في اختياره من قريب أو من بعيد. ولكن، هنا أيضًا، لدى مناصري القرار المستجدّ تبريراتهم وتفسيراتهم، باعتبار أنّ هذا الأمر ينطبق أيضًا على الانتخابات النيابية، "فكم من سكّان مناطق محدّدة يتعاطون بشكلٍ شبه يومي مع نواب هذه المناطق لا يكون لهم أيّ دور في انتخابهم، لأنّهم ينتخبون في مكانٍ آخر بناء على سجلات النفوس".

بدعة وأكثر...

هكذا إذاً، يصرّ فريق باسيل على أنّ الأمر لا يعدو كونه "بروفا نيابية"، وبالتالي فهو لا يحتمل أيّ تضخيمٍ أو مبالغةٍ في غير موضعها. ولكنّ هذه التفسيرات لا تلقى على ما يبدو أيّ آذانٍ صاغية لدى أولئك الذين نزل عليهم القرار نزول الصاعقة، وجعلهم يشعرون أنّ كلّ ما بنوه على مدى سنواتٍ "ذهب مع الريح"، وبـ"شحطة قلم" فقط لا غير.

ويستفيض هؤلاء في شرح وجهة نظرهم من خطوة باسيل المفاجئة، والتي يصفونها بـ"البدعة"، ويسألون كيف يمكن لشخصٍ ما أن يمارس نشاطه الحزبي في منطقةٍ معيّنةٍ ويُحرَم من الترشح والانتخاب فيها، وأيّ عقلٍ يمكن أن يقبل بذلك، بل إنّ تشبيه ذلك بالانتخابات النيابية غير ممكن، خصوصًا أنّ النائب الذي يُنتخَب عن منطقةٍ معيّنة يمثّل أهالي هذه المنطقة، وهو مسؤولٌ عن كلّ ما يحصل فيها، ولا يمكنه التذرّع بأنّه نائبٌ عن هذه المنطقة، ولكنّه ناشطٌ في منطقةٍ أخرى.

ثمّ، هناك سؤالٌ آخر يطرحه هؤلاء، بافتراض "حسن النوايا" وراء هذا القرار، فإذا كان ذلك صحيحًا، لماذا لم يُتّخَذ إلا الآن؟ وما الذي حال دون اتخاذه منذ البداية؟ وهل يمكن أن يكون إرجاؤه لما قبل الانتخاب بشهرٍ ونصف فقط بريئًا، خصوصًا أنّ القاصي والداني يعلم أنّ هذه الانتخابات يُحضَّر لها منذ وقتٍ طويل؟

تداعيات سلبية...

لا يتردّد معارضو القرار المُتّخَذ في "تشخيصه" بشكلٍ دقيق. برأيهم، القصّة واضحة وضوح الشمس، والهدف هو ضرب الأقضية، ولا سيما تلك التي تحتضن قواعد انتخابية كبيرة، وبشكلٍ أساسي في بيروت وجبل لبنان، باعتبار أنّ حجم العديد من هذه الأقضية سيتقلّص بـ"كبسة زرّ" بناءً على هذه المتغيّرات، وقد تصل نسبة التقلّص إلى النصف في بعض المواقع، الأمر الذي سيعيد خلط "خارطتها" عن بكرة أبيها.

ولكن، وبعيدًا عن هذه "الأهداف الآنية"، يدعو هؤلاء من يقفون وراء هذا القرار لإعادة النظر به، بعد التعمّق في "التداعيات السلبية" التي يمكن أن تنشأ عنه حتى لا "ينقلب السحر على الساحر"، خصوصًا أنّ مثل هذا القرار من شأنه أن يساهم في إضعاف "التيار" عمليًا، سواء قصد البعض ذلك أم لم يقصد، كما في إحداث "خرق" بكلّ ما للكلمة من معنى في داخل "التيار"، عبر إعطاء صلاحيات واسعة لأصحاب النفوذ في منطقة معيّنة لـ"اختراق" التيار، عبر بعض رؤساء البلديات والمخاتير القادرين على التأثير في الرأي العام في منطقة محدّدة، وبالتالي يستطيعون أن يكون لهم "مونة" لإدخال من يريدون عند فتح باب الانتساب، ويصبح بعد ذلك لهم "الكلمة الفصل" داخل الهيئات، بعلم أو من غير علم المعنيّين.

وقد يكون "الأخطر" من ذلك هو "التململ" الذي بدأ يظهر بشكلٍ واضح داخل الهيئات المحلية نتيجة القرار، ويقول أحدهم: "هناك ناشطون لهم سنوات طويلة في مراكزهم، وباتوا يعرفون الأرض والناس وحركة النواب، أي يعرفون كلّ شيء، فإذا بهذا القرار يسحبهم إلى مكان لا حول ولا قوة لهم فيه، بل هناك ناشطون يمكن القول بلا تردّد أنّهم أصبحون يديرون الأقضية التي يتواجدون فيها، ولكنّهم للمفارقة ليسوا متجذرين في هذه المناطق"، ويردف آخر: "لا ننسى بعض أصحاب المراكز الأساسيين في الكثير من الأقضية، ممّن لن يكون بوسعهم أن يعودوا إلى مراكزهم رغم أدائهم الممتاز، فقط لأنّهم عندما انتسبوا إلى التيار ارتأوا أن ينشطوا في مكان سكنهم".

مثل هؤلاء الناشطين لن يشطبوا كلّ تاريخهم وينقلوا نشاطهم إلى أماكن نفوسهم، التي لا يعرفون فيها أحدًا ربما، وبالطبع لن يواصلوا نشاطهم في منطقة لا قوة انتخابية لهم فيها، وسينكفئون بالتالي بشكلٍ أو بآخر أو يعلقون نشاطهم بالحدّ الأدنى، الأمر الذي يدفع هؤلاء إلى التساؤل عمّا إذا كان الهدف فعليًا هو إضعاف "التيار" بدل تقويته، ربما للإمساك به في مكانٍ ما.

لماذا إضعاف "التيار"؟

لا يبدو "التيار الوطني الحر" داخليًا في أفضل أحواله. وكأنّ ما يعانيه في الخارج من الأقربين والأبعدين لا يكفيه، حتى أتت هذه الأزمة "الداخلية" لتزيد الطين بلّة، وترسم علامات استفهام بالجملة، فأين هي علمانية التيار؟ وأليس التيار من ينادي بالنسبية؟ وأليس التيار من يعمل للوطن كلّه؟

وأبعد من هذا وذاك، يبقى السؤال الأكبر لدى هؤلاء المعارضين، هل بهذه الطريقة يزيد رئيس "التيار" قاعدته الجماهيرية ويرفع من البطاقات الحزبية، كما وعد بعيد تنصيبه رئيساً؟ ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح، ويكون القرار عمليًا بتقليص عدد هذه البطاقات، ليتسنّى له ربما إزاحة معارضيه والإمساك بـ"التيار" ككلّ؟!