استعدنا أبناءنا من أيدي قاطعي الرؤوس. هذا هو أصل ما جرى أمس. الباقي هوامش، رغم أنها تتسع أحياناً لتكشف أننا لا نعيش في وطن بمقاييس واضحة لتحديد الاعداء والمخاطر. في إسرائيل، عدوّنا الوجودي، لا يُذكر الجنود المأسورون إلا بعبارة «الأبناء الذين تجب إعادتهم إلى الديار». أما في لبنان، فكان يوم أمس مناسبة ليصبّ كثيرون غضبهم على الضحايا، محمّلين إياهم مسؤولية إضاعة هيبة الدولة.

تناسى بعض اللبنانيين أمس أن الجنود ورجال الامن في لبنان هم ضحايا، قبل أن يُخطفوا أو يُستشهدوا أو يُجرحوا. ضحايا لنظام يقبل بأن تُحتلَّ أرضه، ويرفض تحسين معيشة موظفي الدولة والعسكريين، ويأبى تسليح جيشه إلا بما تتكرّم به عليه أميركا وأعوانها. وعندما يُخطَفون، لا يثق أحد منهم بأن خلفه دولة، بكل ما للكلمة من معنى، ستدافع عنه، وتطالب به، وتبذل كل ما في وسعها لإعادته سالماً إلى عائلته وعمله. ضحايا لنظام يقبل بأن تُستغل مشاعر الرهائن، المهددين بالذبح منذ 16 شهراً، على شاشة وسيلة إعلامية لبنانية، ارتضت أن تكون أداة لتلميع صورة قاطعي الرؤوس، كرمى لمصلحة دولة قطر، التي قررت أمس أن تضرب عصفورين بحجر واحد: أن تمنح حزب الله «هدية» في إطار سياستها الجديدة لتخفيف منسوب التوتر المهيمن على علاقتها بعدد من اللاعبين الإقليميين؛ وأن تعمل لتحسين صورة «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة»، على أبواب مؤتمر فيينا السوري، ونزع صورة الإرهابي الذبّاح عنه، بواسطة «قناة الجزيرة» وتلفزيون «المر» اللبناني، اللذين كانا أمس ناطقين رسميين باسم التنظيم التكفيريّ.

«الهوامش» اتسعت أمس لتعيد إلى الأذهان صورة الجرود اللبنانية المحتلة، حيث ينتشر إرهابيّو تنظيم «القاعدة» و»داعش»، من دون أن تكلّف السلطة السياسية نفسها عناء عقد اجتماع واحد، لبحث كيفية تحريرها، لا درءاً للمخاطر (الوجودية، بدليل ما جرى في شرقي سوريا وغربي العراق) التي يمثلها قاطعو الرؤوس وحسب، بل أيضاً لوقف إراقة ما بقي من وجه ماء الدولة. أراد الأميركيون، وحلفاؤهم في لبنان، الإبقاء على «مسمار الإرهابيين في الجرود» في خاصرة المقاومة، قبل أن تبادر الأخيرة إلى طردهم من جزء من الأراضي المحتلة، وفق برنامج لتحرير كافة الحدود. وبعدما استفحل الخطر، تركت السلطة الأمر على عاتق المقاومة، تماماً كما تركت ملف العسكريين المخطوفين على عاتق المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. انطلق إبراهيم في مسعاه لإطلاق الرهائن، واستعادة ما بقي من «صورة دولة» مهدورة في جرود عرسال التي منعت السلطة الجيش من تحريرها. اصطدم أحياناً كثيرة بتدخل قوى سياسية لبنانية في الملف، ومحاولاتها فتح خطوط تواصل مع الخاطفين لم تؤدّ سوى إلى تقوية موقف الجماعتين الإرهابيتين. لكنه استمر في عمله، إلى أن توصّل قبل أشهر إلى اتفاق مع الخاطفين على إتمام صفقة للتبادل. في اللحظات الأخيرة، أصرّ إرهابيّو «النصرة» على عدم شمول الاتفاق جثة الشهيد محمد حمية. ثم اختفى الوسيط القطري، لأسباب لا تزال حتى اليوم مجهولة. بقيت أبواب التفاوض موصدة، إلى أن زار إبراهيم الأمينَ العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يوم 8 تشرين الاول الماضي. حينذاك، طُرح ملف العسكريين الرهائن على طاولة النقاش. بعض وسائل الإعلام كانت قد نسبت إلى «النصرة» شرطاً يُعدّ تعجيزياً لإطلاق العسكريين، قرار تنفيذه محصور بيد الدولة السورية. فقال السيد للواء: «إذا طلبت «النصرة» هذا الاقتراح رسمياً، أخبرني لأرى ما يمكن فعله». أراد نصرالله تقديم أي مساعدة، ولو كانت غير ممكنة نظرياً، لإقفال ملف الرهائن، فأخبره إبراهيم بأن أي تواصل مع أمير قطر يمكنه أن يمنح المفاوضات دفعاً إيجابياً. وعد السيد خيراً، وبعد أربعة أيام، أبلغ إبراهيم بأنه بعث برسالة إلى أمير قطر تميم بن حمد، وأن الأجواء إيجابية. عاد التواصل بين المدير العام للأمن العام اللبناني ومدير الاستخبارات القطري غانم الكبيسي، بشأن ملف الرهائن.

وسريعاً، عاد الوسيط القطري إلى لبنان. ومع كل تدخّل لنصرالله لدى أمير قطر، كانت شروط الإرهابيين تنخفض. وعندما طالبوا بالإفراج عن موقوفات في السجون السورية، تدخّل نصرالله لدى الرئيس السوري بشار الأسد الذي وافق على تلبية الطلب اللبناني، تماماً كما في مفاوضات تحرير مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا. استمر إبراهيم في التفاوض، بين السلطة اللبنانية وقطر، يواكبه نصرالله كلما اقتضت الحاجة. يوم الاحد الماضي، كانت المفاوضات قد وصلت إلى مرحلتها النهائية، فأضافت «النصرة» مطلباً جديداً: تسوية الملف القضائي للشيخ مصطفى الحجيري (أبو طاقية). رفض إبراهيم ذلك، وأصدر أوامره لعناصر الأمن العام بمغادرة عرسال، مع قافلة المساعدات التي كانت متجهة إلى الجرود. هنا أيضاً تدخّل نصرالله. اتصل بأمير قطر، الذي أوعز إلى «جبهة النصرة» بالتخلي عن المطلب الجديد، وبإتمام صفقة التبادل، فنفّذ إرهابيّو «القاعدة» الطلب الأميري، وتمّت صفقة التبادل أمس.

في حسابات الربح والخسارة، يمكن تسجيل الآتي:

تمكّن اللواء عباس إبراهيم، برعاية السيد حسن نصرالله، من تحرير الرهائن، في مقابل ثمن يمكن القول إنه بخس (بعدما تعمّدت الدولة إظهار عجزها عن الضغط على الإرهابيين كما يجب، بات إلزامياً تحرير إرهابيين كثمن لإطلاق الرهائن). وبدا واضحاً أن نصرالله وإبراهيم هما الوحيدان القادران على إدارة ملف شائك من هذا النوع، في ظل غياب تام لمن تُطلق عليهم، زوراً، صفة «رجل دولة».

تمكّنت «جبهة النصرة» من إطلاق 29 شخصاً (13 موقوفاً و4 أطفال من لبنان، و12 شخصاً بينهم أطفال من سوريا). لكن مطالبها الأخرى لا تعدو كونها «فرقعة إعلامية». فالطريق مفتوحة بين عرسال والجرود، حيث توجد مخيمات للنازحين لم تنقطع عنها يوماً إمدادات الغذاء والوقود التي يستفيد منها الإرهابيون.

تحرّرت المقاومة من عبء ورقة الرهائن في أيدي إرهابيي النصرة، في أي مواجهة مستقبلية في الجرود.

«باع» أمير قطر «ورقة» الرهائن لحزب الله، لتوثيق الصلة المفتوحة بين الطرفين منذ مدة، وكسب أعداء «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة» عنواناً سياسياً لا لبس فيه لهذا التنظيم، بمقدورهم طرق بابه كلما أرادوا التواصل مع «القاعدة» أو التفاوض معها أو الضغط عليها. بمعنى آخر، صار تميم بن حمد، رسمياً، الممثل السياسي «الشرعي» لـ»جبهة النصرة».

قدّمت الدولة السورية، مرة جديدة، مساعدة مجانية للبنان، من دون أن تلقى أيّ شكر من السلطة التي تدعم غالبيتها الحكومية خاطفي العسكريين وقاطعي رؤوسهم.

رغم مشهد السراي الحكومي، وباستثناء موقع اللواء عباس إبراهيم وشبكة علاقاته، لم يبقَ من الدولة اللبنانية «ولو ظلّ» يمكن التعويل عليه في أزمة من مستوى أزمة الرهائن. باختصار، في لبنان دولة ليس لأهلها نصيب منها إلا المراسم والشكليات، في مقابل مواطنين صالحين: حسن نصرالله وعباس إبراهيم.