لا يختلف إثنان أنّ التدخّل العسكري الروسي الذي تصاعد بشكل كبير منذ نحو أربعة أشهر، إن بالنسبة إلى نوعيّة السلاح المُصدّر إلى سوريا، أو بالنسبة إلى الغارات الكثيفة التي تُنفّذها الوحدات العسكريّة الروسيّة الموجودة حاليًا في سوريا وفي البحر الأبيض المتوسّط، لعبت دورًا حاسمًا في تبديل موازين القوى لصالح النظام السوري، حيث تحوّلت المُعارضة من الموقع الهُجومي إلى الموقع الدفاعي، مع تسجيلها خسائر ميدانيّة مُهمّة على الأرض في أكثر من جبهة. فهل نتّجه نحو نهاية قريبة للحرب السورية، أم أنّ المُعارضة تُراهن على مُعطيات جديدة لإعادة بعض التوازن للمواجهات الدمويّة المُستمرّة منذ قُرابة خمس سنوات؟

بداية لا بُد من الإشارة إلى أنّه على الصعيد السياسي، لا أمل بأيّ تسوية سياسيّة قريبة من "جنيف 3" أو من غيره من المُؤتمرات والمُحادثات التي يعمل أكثر من طرف غربي على تنظيمها في المُستقبل القريب. والسبب أنّ إنقلاب موازين القوى لصالح النظام السوري خلال فترة زمنيّة قصيرة، جعل هذا الأخير أكثر تشدّدًا في شروطه، خاصة وأنّ الرعاية الغربيّة لهذه المُفاوضات مالت بشكل واضح نحو النظام، مُقارنة بما كانت عليه في مؤتمر "جنيف 1" مثلاً. والأسباب مُتعدّدة، فالدور الروسي في الشرق الأوسط تنامى بعد التدخّل العسكري المُباشر في المنطقة، وبعد إنحسار أزمة أوكرانيا. والدور الإيراني تنامى بدوره بعد رفع العُقوبات عن طهران وغضّ الطرف الغربي عن تغلغل إيران في العديد من الدول العربيّة، وذلك بسبب تشابك مصالح إقتصادية وسياسيّة غربيّة معها. في المُقابل إنّ الدور الأميركي صار غائبًا تمامًا عن جولات المحادثات الجديدة، ويقتصر على حُضور إعلامي لا غير، بسبب دخول الإدارة الأميركيّة مرحلة العدّ العكسي للإنتخابات الرئاسيّة في تشرين الثاني المُقبل، وإنطلاق الحملات الإنتخابيّة الداخلية بين الأحزاب والشخصيّات المُتنافسة، ما يعني عمليًا توقّف أيّ ثقل سياسي خارجي. وبالنسبة إلى الدور الأوروبي فهو إنحسر أيضًا، بسبب إنغماس الدول الأوروبيّة بأزمة اللاجئين التي تشغل ​أوروبا​ حاليًا، وبسبب المخاطر الإرهابية المُتنامية التي تغلغلت في الداخل الأوروبي. وإضافة إلى فُقدان التوازن بسبب إضمحلال الدور الأميركي-الأوروبي بمواجهة الدور الروسي-الإيراني، ضعفت المظلّة التي كانت تدعم المُعارضة السوريّة في المؤتمرات السياسيّة أكثر فأكثر، بسبب النزف الذي تتعرّض له السعودية في حربها في اليمن، وبسبب الإرباك الذي تتعرّض له تركيا بسبب نموّ الحركة الكرديّة المُسلّحة على حدودها، علمًا أنّ كلاً من الرياض وأنقره تُواجهان مشاكل أيضًا في الحفاظ على دور مُهمّ في الداخل السوري، بسبب الحرج الذي يُشكّله لهما تنظيم "داعش" الإرهابي والمشاكل الأمنيّة التي يُسبّبها لهما، وكذلك بسبب التراجع الميداني للجماعات المُسلّحة المحسوبة على كل منهما.

وفي ظلّ هذه التطوّرات التي أسفرت عن تراجع فرص التسويات السلميّة، فإنّ الكلمة ستبقى للسلاح وللمعارك في الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة، الأمر الذي يستغلّه ​الجيش السوري​ وحلفاؤه لتوسيع رقعة سيطرتهم الجغرافية قدر المُستطاع، والأهم أنّ هذا التوسّع لا يتمّ بشكل عشوائي، بل عبر "سيناريو" مرسوم بدقّة، يهدف إلى وضع اليد على الطرقات والمناطق الإستراتيجيّة، والأهم إلى قطع خُطوط الإمداد بالعديد والعتاد من كل من تركيا والأردن والعراق.

لكن "المُعارضات السورية" التي باتت في وضع لا تُحسد عليه، بسبب التطوّرات السياسيّة والعسكريّة المُتلاحقة التي لم تصبّ في صالحها، تُراهن حاليًا على قُدرتها على القتال تراجعيًا لفترة طويلة، وعلى مُواصلة حرب الإستنزاف ضُد الجيش السوري وكل القوى التي تُقاتل إلى جانبه. وهي تأمل أنّ تحمل لها نهاية العام الحالي تغييرات إستراتيجيّة قد تُعيد التوازن إلى حربها المفتوحة لإسقاط الرئيس السوري بشّار الأسد. وهي تراهن في هذا الصدد على كل من:

أوّلاً: سقوط الحزب الديمقراطي في الإنتخابات الأميركيّة المُقبلة، وعودة الحزب الجمهوري إلى السلطة، على أمل أن يعتمد سياسة خارجيّة تُعيد الهيبة الأميركيّة بوجه ​روسيا​ في الشرق الأوسط والعالم أجمع.

ثانيًا: تمكّن الوحدات النظاميّة العربيّة والقوى الشعبيّة التي تُحارب جماعة "​أنصار الله​" والوحدات العسكرية الموالية للرئيس اليمني المخلوع ​علي عبد الله صالح​، من فرض سيطرتها على صنعاء، الأمر الذي قد يُعزّز الأوراق التي تملكها السعودية بوجه إيران.

ثالثًا: أن تُجبر التطوّرات الميدانية على الحدود مع تركيا، لجهة توسّع نُفوذ كل من تنظيم "داعش" من جهة، والقوى الكرديّة المُسلّحة المختلفة من جهة أخرى، الجيش التركي إلى تجاوز الخُطوط الحمراء والتحرّك إلى الداخل السوري، بحجّة مواجهة إرهابيّي "داعش" ومنع إقامة دويلة كرديّة مُسلّحة على حدوده.

رابعًا: أن تفرض الوقائع الميدانية المُخيّبة لآمال كل من الرياض وأنقرة في سوريا، وإلتقاء المصالح بين كل من تركيا والسعوديّة، تحالفًا ثنائيًا فعليًا بينهما، من شأنه أن ينعكس توحيدًا أكثر فعاليّة لجُهود الجماعات المُسلّحة المُناهضة للنظام، ودعمًا أكبر بالمال والسلاح.

وفي الختام، لا شكّ أنّ الحرب السوريّة التي تُنهي الشهر المقبل سنتها الخامسة، مع كل الكوارث التي تسبّبت بها من حيث الخسائر في الأرواح، والدمار والإنهيار الإقتصادي، وأزمات النزوح الداخلي والخارجي، إلخ. ليست على باب قوسين من النهاية، حيث أنّ لا تسوية في الأفق، بل رهان من جانب النظام بالحسم العسكري، ورهان من قبل مُناهضيه بأنّ الحروب فيها مراحل صعود وهبوط، وأنّ المُستقبل سيحمل مفاجآت غير سارة للنظام الفرح حاليًا بانتصاراته الميدانية.