على هامش المباحثات التي كانت قائمة من أجل إطلاق مفاوضات ​مؤتمر جنيف​ الثالث بشكل رسمي، بين وفدي المعارضة والحكومة السورية، ظهرت إلى العلن موجات من "الكباش" الروسي التركي، عكست الصراع بين موسكو والقوى الإقليمية الداعمة لمختلف المجموعات المعارضة المسلحة، التي تحارب ​الجيش السوري​ على أرض الواقع، سواء كانت متضامنة مع بعضها البعض أم متحاربة.

حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل السلطات التركية، يمكن القول أنها كانت مفصلية على صعيد العلاقة بين البلدين، حيث دخلت مرحلة المواجهة المفتوحة، عبر سعي موسكو إلى القضاء على أي دور لأنقرة في الداخل السوري، عبر إستهداف الفصائل التي تدور في فلكها، ما دفع المسؤولين الأتراك إلى تصعيد لهجتهم تجاه الدور الروسي في الدولة الجارة، لا سيما بعد أن لمسوا أن رياح المعارك في ريف اللاذقية، حيث التواجد التركماني، لا تجري كما تشتهي سفنهم.

على صعيد متصل، عملت الدبلوماسية الروسية، من خلال جولات المفاوضات، التي رافقت عمل مجموعة الدعم الدولية، على إقصاء بعض المجموعات المعارضة المقربة من تركيا، من خلال الإصرار على تصنيفها منظمات إرهابية لا يمكن القبول بأي دور لها في المستقبل السوري، فكان التشدد بالتعامل مع حركة "​أحرار الشام​"، بعد التوافق على توصيف واقع كل من تنظيم "داعش" وجبهة "النصرة"، الأمر الذي دفع أنقرة إلى محاولة الإلتفاف، عبر تقديم التنازلات إلى المملكة العربية السعودية، من خلال إفساح المجال أمامها لتشكيل وفد المعارضة الذي سيكون شريكاً على طاولة المفاوضات مع الحكومة، وهو ما ترجم سريعاً بالتحالف السعودي التركي، الذي ظهر من خلال رفع مستوى التنسيق بين البلدين.

لم تتوقف التطورات على هذا الخط عند هذا الحد، خصوصاً أن العمليات العسكرية في سوريا، التي تقودها موسكو، بدأت تأتي ثمارها، فكان موقفها أكثر تصلباً في التعاطي مع اللاعبين الإقليميين، لا سيما الرياض وأنقرة، حيث وضعت الخطوط الحمراء على مشاركة "أحرار الشام" و"​جيش الإسلام​" في مؤتمر جنيف الثالث، بالرغم من عدم حصول توافق دولي على تصنيفهما منظمتين إرهابيتين، لكن بعد إنسحاب الحركة من مؤتمر الرياض، وإصرار السعودية على وجود ممثل "جيش الإسلام" على طاولة التفاوض، تراجعت ​روسيا​ بعض الشيء عبر قبول تواجد ممثل هذا "الجيش" محمد علوش، من دون الإعتراف بدور من يمثل، إلا أن ذلك لم يؤد إلى وقف "الكباش" القائم على أكثر من صعيد.

بالأمس، عبّر وزير الخارجية الروسي ​سيرغي لافروف​ عن مدى السقف العالي الموضوع من بلاده، تجاه مطلب وقف إطلاق النار الذي تنادي به قوى المعارضة، من خلال التأكيد بأن ليس هناك ما يدعو إلى تحقيق هذه الغاية، بل على العكس، تم وضع شرط على الحكومة التركية يبدو تعجيزياً، يقضي بإغلاق حدودها مع سوريا، التي تعتبر ممراً أساسياً لإيصال الإمدادات إلى الفصائل المسلحة، الأمر الذي يعني إنهاء دورها بشكل رسمي، نظراً إلى أن القوى المدعومة من قبلها ستكون دون خطوط إمداد تتحكم هي بها، بالإضافة إلى تأكيد موسكو على ضرورة تمثيل الأكراد على أي طاولة مفاوضات، الشرط الذي ترى فيه أنقرة تهديداً لأمنها القومي، بسبب مخاطر نمو دورهم في المناطق التي تقع على حدودها.

في السياق نفسه، تأتي مخاطر إغلاق الحدود التي قد تكون كارثية على أنقرة، نظراً إلى أن الجماعات المسلحة قد تفكر، في هذه الحال، في تبديل وجهة تحركاتها نحو أراضيها، والإشتباكات القائمة بين عناصر الأمن التركي وإرهابيي "داعش"، على مدى اليومين الماضيين، تصب في هذا الإتجاه، بعد أن كانت القوات التركية قد دخلت في السابق إلى مناطق تقع تحت نفوذ "داعش"، من أجل سحب ضريح جد مؤسس "الدولة العثمانية" "سليمان شاه"، من دون أن تتعرض لأي إعتداء، كما هي تعيش اليوم واقعًا داخليًا لا تُحسَد عليه، حيث الهجمات الإرهابية تستهدف قلب المناطق السياحية فيها، الأمر الذي يترك تداعيات خطيرة على إقتصادها الوطني.

في المحصلة، "الكباش" الروسي التركي هو وجه من وجوه الصراعات المتعددة على هامش مؤتمر جنيف الثالث، تصرف فيه موسكو بالسياسة ما حققته في الميدان العسكري، ولكن هل تبقى أنقرة مكتوفة اليدين، وما هي هوامش تحركاتها الممكنة؟