مسيحيًا، اطمأن العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع يوم قررا أن يعلنا ما يأملان أن يكون “زواجًا مارونيًا”، ووضعا أيديهما في مياه باردة إزاء ردّة فعل الشارع التي أتت في صالح تقاربهما بنسبٍ كاسحة، وهو ما عكف على دراسته الطرفان حتى قبل إنجاز إعلان نواياهما امتدادًا الى ترشيح جعجع لعون. بقي في ذاك الشارع خرقٌ وحيد: أهالي الشهداء.

لم يكن سهلاً على كلا الرجلين السير فوق حرقة قلب أمٍّ لم تكتسب نعمة المسامحة رغم مرور عقود، ولا تجاوز كرامات عائلات لم تكن ترى أقله في واحد منهما سوى “قاتل” سلخ منها ابنًا أو أبًا أو أمًا أو أخًا أو أختًا. أتمّ عون وجعجع اتفاقهما التاريخي، وبقي صوت أهالي الشهداء يتردّد في أرجاء ضميريهما وينغّص عليهما فرحة التلاقي بعد طول تشتّت.

ثلاث فئات...

حاولت الرابية ومعراب، وبنوع خاص الثانية، تقديم تسويغاتها وفتح كلّ أوراقها أمام ذوي شهداء الحرب المشؤومة على الطاولة حتى قبيْل إعلان جعجع عن مبادرته. منهم من تقبّل الفكرة مؤثرًا طي صفحة البغضاء والصفح ركونًا الى تعاليم الكنيسة، ومنهم من ابتلعها على مضض وفاءً لخطّه السياسي ولرغبة “زعيمه” الذي من أجله استُشهد وليدٌ، ومنهم من غادر اللقاء مع شتيمة ضمنية وكلمة “يا حيف” لا تفارق شفتيه. في هذه الفئات الثلاث فكّر عون وجعجع، أرادا أن “يبكّلا” اتفاقهما على أكمل وجه. أرادا أن يحصلا على بركة أمٍّ جعلت من صورة ابنها ذخيرة بين ثيابها، وغفران أبٍ جعل من الدمعة المكابِرة رفيقة العين والروح. لأجل هؤلاء تحرّك الفريقان علهما يُفلحان في إقناعهم بتعويض الحقبة السوداء بمرحلةٍ بيضاء رغم أن الخسارة لا تُعوَّض.

حسن النية والواجب

يعرف عون وجعجع اللذان تأخر صفحهما سنوات لا بل عقودًا لصالح حساباتهما السياسية أن الصفح هو من صلب الإيمان المسيحي، لذا قررا الضرب على هذا الوتر الأكثر إجداءً. وحدها الكنيسة يمكن أن تصنع المعجزات وتهدّئ من رَوع النفوس وتزرع المسامحة في البواطن. بدأت خيوط الفكرة تتّضح أكثر في كواليس الفريقين. رئيس جهاز التواصل في القوات اللبنانية ملحم رياشي أكثر من يوحي بتعمّقه وتبحّره بالقدرة على ترتيب الأمور. التواصل مع الدينامو الآخر وشريك الرحلة الطويلة النائب ابراهيم كنعان واجب. لم تتبلور كلّ الأفكار بعد على ما علمت “البلد” بيد أن الفكرة أعجبت الرابية ومعراب: قداسٌ إلهي جامع لجميع أهالي شهداء الحرب اللبنانية، فيه الكثير من التودّد والروحانية، ويحضره العماد عون والدكتور جعجع نفساهما ليصافحا أهالي الشهداء ويقفا على خاطرهم من باب حسن النيّة والواجب. حينها فقط يكون الرجلان قد فعلا ما يمليه عليهما ضميراهما والباقي على مدى تقبُّل الأهالي ومعونة الخالق.

اعتذار أخير

منذ ثلاث سنوات ونصف السنة تقريبًا وتحديدًا في أواخر آب 2012، إعتذر جعجع من أهالي الشهداء. لم تكن خسارتهم هي سبب الاعتذار كالمعتاد، بل غياب اللقاء السنوي نظرًا الى الأوضاع الأمنية المهتزة يومذاك، فاكتفت القوات بقداس رمزي. اليوم تبدو المشهدية مختلفة، إذ قد يضطر جعجع الى تقديم اعتذارٍ أخير من أهالي الشهداء لتبدأ حكاية جديدة لا تُسقِط من صفحاتها التشديد على مفهوم “شهداء المقاومة اللبنانية” في رسالةٍ سياسيّة اعتادت معراب توجيهها الى حارة حريك، حليفة الجنرال الوفية، وهو ما يطرح بعض الهواجس المتعلقة بطبيعة الخطاب القواتي هذا العام وإمكانية تحوّله من سطورٍ فيها من الاستفزاز الكفيل بتنفير حزب الله، الى سطورٍ روحية تكتفي بالإحاطة برمزية اللقاء الجامع وتحمل دعوةً صريحة الى الغفران.

مطروحة منذ زمن

لن تكون المهمة سهلةً على الفريقين على ما يُهمَس في كواليسهما. فالحقد الذي حُفِر في النفوس طوال أعوام، والذي كان الزعيمان المتحابّان أول من سمح له بالحفر الى هذه الدرجة، سيصعّب عليهما مهمّة محوه حتى لو كانت الممحاة مبخرة وصلاة. وعلمت “البلد” أن “الفكرة كانت مطروحة حتى منذ ما قبل مبادرة جعجع الرئاسية، أي بُعيْد توقيع إعلان النوايا المشترك، بيد أن ترشيح الرئيس سعد الحريري لسليمان فرنجية خلط الأوراق وغيّر الأولويّات، فكان لا بدّ من التريّث الى حين إرساء تبني جعجع ترشيح عون، ومن ثمّ إعادة إنعاش فكرة القداس المشترك الذي في حال أنجِز سيكون على نية جميع شهداء المقاومة المسيحية، على أن يكون المكان المناسب له حريصا، تحت رعاية سيّد الصرح شخصيًا في خطوةٍ جوهرية منه لتثبيت مباركته لهذا التقارب واللُحمة”.

جراح وإحراج!

حتى اليوم، لا تأكيد أو نفي في أوساط الطرفين. قلة تعرف بالفكرة رغم أنها ليست سرًا ليخبئه الفريقان على كوادرهما وقاعدتيهما، بيد أن جسّ نبض أهالي شهداء الجيش والقوات هو ما يدفع الى مزيدٍ من درس الموضوع بكلّ تفاصيله تلافيًا لتعميق بعض الجراح أو لإحراج أحد الفريقين أو كليهما بردود أفعالٍ مفاجئة...