يتمّ تنظيف الأذهان الفكرية العربيّة، بين مشرق العرب عبر بوابات العراق وسوريا المطلّة على العرب، ومغربهم عبر بوابة ليبيا المطلّة على روما وبلدان أوروبا، من ركام العروبة المتلاشية أو القومية العربية المستوردة التي رافقت الثورة الصناعية في الغرب ، لتستبدل كلّها بسلّ السيوف بين المسلمين وتدمير قيم الدين وإبادة الأقليات وتهجيرهم ثم رفع السيف في وجه الغرب متطلعين الى من نافذة روما. هل توضّب داعش إرهابها وتقفز فوق مآسي الشرق نحو المغرب؟ نعم. على الأرجح بحيث أنّ حمى الإرهاب العالمي قد يحوّل معظم الأوطان أسواقاً لبيع الأسلحة الفتّاكة، ومعها ستسقط ألوف الضحايا بعد، وتتلاشى التعقيدات التقليدية الفكرية بين العرب والمسلمين. وتحفّز الوحشيات الحاصلة والإنقسامات والكوارث المتفاقمة المتنقلة لا بهدف التنظيف العلني للتاريخ العربي و"الثوري" الربيعي في مكانٍ ما من الأدمغة نحو يقظات دينية متعددة أو ملحة ومنتظرة وضرورية ويستعاد الحنين في مصر وتونس ولبنان والمغرب وبلدان الخليج العربي، مثلاً، بالإستناد الى التجربة الناصرية وتجربة الملك فيصل وتجارب فلسطين التي لم تتوقف، بالإستناد الى أمرين أوّلهما إنكشاف معظم الأغطية الخبيثة الغربيّة عمّا حصل وسيحصل في بلادنا وثانيهما إنكشاف هول المخطّطات المنسوجة لتدمير المكان والعقل العربي اليابس في الزمن الذي تبدو فيه الثورة الإسلامية في إيران تفتح نوافذها المتصالحة على الغرب في أعقاب التفاهمات النوويّة التي يفتتن بها الغرب وإيران على السواء. هل نخجل بعد من الفكر التجديدي والدعوات الجريئة التي تتراكم بهدف الإصلاح الديني في بلاد الإسلام؟ الجواب: لا حتماً حتّى ولو غالى بعض المفكرين حيال التكفير في الدعوة الى الخروج من لحاء تشويه الدين الى درجة قد تقارب الكفر في بعض النصوص. النخب باتت تفضّل الإلحاد على الدين.

هي مرحلة إنتقالية قاسية على العرب، وعودة شاقّة محفوفة بالتوق النرجسي الى زمن القوميات التقليدية بقدر ما هي حنين يتعاظم ويشتدّ أو يضعف ويتراخى على إيقاعات القتل المتنقّل والعبث الحضاري الفظيع الذي يصعب حصر هوياته. ويفرز هذا المناخ ضرورة التذكير بالمقولات المعروفة التي حفل بها القرن الماضي والتي تحصر علاقات العرب والمسلمين في أربع وحدات جغرافيّة وفي توجهين فكريين :

أ‌- النمط التمايزي النظري: أوصل هذا النمط أحياناً العروبة والإسلام الى درجة الإنفصال التام بينهما. كبّل النمط إشكاليات الموضوع بجدليات ونظريات لم تفض الى نتائج حاسمة. وبقي التمايز صارخاً في القول كما في النصوص بالرغم من الحروب التي أورثها هذا التمايز، وهي لم تخلّص الفكر من إرث هذه الجدليّة المتراكمة.

يمكننا، بهذا المعنى، أن نفهم ونهضم ونشجّع دعوات الفكر النقدي العربي اليوم الذي يطالب مثلاً، بإعادة تأسيس العقل النقدي وتجديد الفكر الديني وربطه بثورة المعلومات التي هي بحاجةٍ الى الفكر النقدي بدورها مركزين على المقاصد العليا في الإسلام...والقيام بإستلحاق نهضة معرفيّة ستأخذ منّا وقتاً طويلاً، تركّز على مناهج التعليم العتيقة البالية سواء في الحواضر الدينية الكثيرة التي يلفظ العالم عبرها الفكر الديني.

ماذا يفعل الوعاظ الجاهلون؟ وماذا نجد على طريق الوعظ السريع الزاخر بقشور العلم والإقناع سوى الجهل والعصبية والوحشية التي تفتقر الى الفكرٍ المستنير.

هل يجوز ملء الدنيا بالجوامع المرتجلة السريعة ليرتفع فوق المنابر عند الصلاة أجيال لا تحصى من الحاقدين الأميين الواعظين التحريضيين الذين يخجل المرء من تلطيخ حبرهم بما يعظون؟

أيجوز أن تمتليء الشاشات بالمجنهدين من الذين لم تنبت شعور ذقونهم بعد يخطبون ويرشدون ويفقهون في المؤمنين من شباب الإسلام؟

ثمّ يلتقي المؤمنون والناس بعد الظهر أو في المساء هؤلاء أنفسهم يسوقون العربات البالية سائقين في أزقة مدن العرب وقراهم أو يبيعون في زوايا الساحات ما يشقعونه فوق عرباتهم الخشبية من عرانيس الذرة الى ما سمحت به المناسبة الى ما هنالك من المهن الشعبية المتواضعة التي تفرض نفسها على طبقات وضيعةٍ من رجال الدين بدافع الحاجة والعوز؟ هل الدين مهنة إرتزاقية وضيعة الى هذا الحد؟

الغريب أنّ ما يراه الغرب بقيمه وأفكاره سيرورة تنوير وإنخراط في فعل التغيير، ما زال وقعه على الكثيرين في بلادنا بوصفه عدواناً دهرياً لا ينقطع، لكن، لا بدّ للثورات ، مهما استمرّت كاسحة، من أن تتعزّز وتترسّخ، وصولاً، في آخر المطاف، الى التحوّل من لحظة نشوةٍ قوة "دينية" مفرطة الى زمن تعقل وإنفتاح قابل للإستمرار.

الولايات المتّحدة، كما كتب هنري كيسنجر، وعلى سبيل المثال، وخصوصاً بعد إنسحابها من أفغانستان" كفّت عن التعامل مع التوازن الداخلي المعاصر في الشرق الأوسط بوصفه مشكلة عسكرية،غير أنّها لم تلبث أن وجدت نفسها منصاعةً أومضطرّة لمضاعفة نشاطها السياسي والدبلوماسي في نظرتها الى الشرق الأوسط من أجل إقامة نوعٍ من النظام الإقليمي منعاً لإستشراء الفراغات، التي، من شأنها، بالضرورة، أن تجرّ جميع البلدان هناك الى نوعٍ من المجابهة الإقليمية التي قد تنذر في لحظةٍ من الغضب الى رسم ملامح حرب عالمية معلنة يصعب ضبطها. فكان لا بدّ من هامش تفاهم مع روسيا.

صحيح أنّ الدنيا قد تغيّرت كثيراً بعد ألفية ونصف تقريباً من عمر الرسالة الإسلامية، وما زالت الفصائل المتنوعة تلوذ بالقتال والنصوص والخطب المرتجلة والإجتهادات الكثيرة، وتفتح بلادنا العربية ساحات للعالم كله شرقاً وغرباً، ومساحات تذابح وتهديم ومصالح تتدافع فوقها الدول والشركات بهدف البيع للتحديث لا بهدف الحداثة والفرق بينهما كما الفرق بين القشرة وجذع الشجرة.

يتمادى الجهاديون المشكوك بقداستهم كما اللعب في تمزيق المجتمعات وتفكيك الدول لاهثين وراء رائحة البقع الغنية بالبترول والغاز وهي مسائل لا تبني سوى دول عابرة مؤقتة لا تخلف ولا تخلّف شيئاً. هم خارج الفكرة التوحيدية التي تعود الى الكنعانيين، وقبل الديانات التوحيدية الثلاثة ذلك بعصور وأساسها أنّ من يتبع الله يتبع الإنسان.

صحيح أيضاً أن الإسلام قد إنتشر بقوّةٍ هائلة عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا منذ القرن السابع ، متغذياً بحماسة دينية هائلة ورؤى إمبراطورية حملت صيغة عظيمة للنظام الكوني. لكنّ الصحيح أنّ الظروف والدول والأزمنة قد تغيّرت كثيراً بعد تاريخ طويل من تفاعلات إيقاظ العداوات بين المذاهب والمجتمعات الإسلامية وبينها وبين المجتمعات غير المسلمة وخصوصاً عالم الغرب المكشوف ، لكنها تعود لتقدّم نفسها مجدداً "دار الحرب" كمسمّى للأقاليم المتنوعة التي كانت مأهولة بالمسلمين وبغير المسلمين، تطلّعاً مستحيلاً الى أن يصبح العالم كلّه نظاماً أحادياً يتناغم مع الرسالة.

تبقى معضلة الإندماج بين الشعوب في الشرق الأوسط ، بشكلٍ عام، كما في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، تستقطب وتتطلّب جهوداً جبّارة لم تنجح لكونها تلامس بلاداً لها حضارات متمايزة وثقافات متباعدة كثيراً عند التجديد أو التحديث في التطبيق. ولهذا بقي الإنتباه الغربيّ والأميركي منصبّاً أحمر العين في استراتيجياته المتنوعة على تلك المناطق بشكل حثيث.

السؤآل الكبير: متى يخرج المسلمون من كوارثهم المتناسلة صارخين في وجه المرآة حيث يرون صورتهم فيها أعداءً لأنفسهم بدلاً من رمي كوارثهم على العالم الذي أنهكهم لرخاوتهم وسيستمرّ.