انعقد ​مؤتمر جنيف​ 3 على وقع انقلاب الصورة في الميدان العسكري في سوريا لصالح الجيش العربي السوري، الذي حقّق تقدّمًا استراتيجيًا في الشمال السوري بكسر الطوق المحكم الذي كان مفروضاً لاكثر من ثلاث سنوات على مدينتي نبل والزهراء، وإعادتهما لكنف الدولة السورية.

هذا التقدم للجيش العربي السوري أرخى بظلاله على أجواء مؤتمر جنيف، ما أصاب معارضة الرياض بالهيستيريا، فاستشاطت غضبًا بوجه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا لتبلغه قرار الانسحاب من المؤتمر وعدم الرغبة بإكمال المفاوضات، علمًا أنّ رئيس الوفد الرسمي السوري بشار الجعفري كان قد سبق الجميع بتوجيه أسئلة عن لوائح "المعارضات" التي ستحضر، وعن جدول الأعمال، أو البنود التي سيتمّ البحث بها.

وإذا كان دي ميستورا علّل فرط عقد المؤتمر بلغةٍ دبلوماسيةٍ بالحديث عن حاجةٍ للمزيد من التنسيق والإعداد والترتيب، فإنّ المفارقة التي يجدر التوقف عندها هي أنّ الوفد الرسمي بدا أكثر قوة وثقة، خصوصًا بعد تأكيد أنباء تقدّم الجيش العربي السوري ونجاحه بقطع طرق الامداد من تركيا، فيما بدت وفود "المعارضات" في المقابل منكسرة تجرجر أذيال الخيبة والتشتّت والخلاف فيما بينها.

ولم تكن تركيا بدورها مرتاحة لتطورات الميدان السوري، فخرجت على لسان رئيس حكومتها أحمد اوود أوغلو، خلال مشاركته بمؤتمر المانحين في لندن، باتهاماتٍ للجيش السوري وحليفه الروسي بتقويض محادثات جنيف، ملمحًا في الوقت عينه باعادة استعمال قضية اللاجئين للضغط على اوروبا من أجل الضغط على ​روسيا​ لوقف طلعاتها الجوية المساندة لقوات الجيش السوري، في وقتٍ بدا لافتاً البيان الذي صدر عن وزارة الدفاع الروسية عن امتلاكها معلومات موثقة حول نية الأتراك التدخل عسكرياً في الشمال السوري، علمًا أنّ روسيا اتهمت الحكومة التركية بمنع طائرات الاستطلاع الروسية من التحليق في الاجواء التركية حسب اتفاقية الاجواء المفتوحة التي تم التوقيع عليها عام 2002.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ ارتدادات حادثة إسقاط الطائرة الروسية في شهر تشرين الثاني الماضي لا تزال ماثلة في العقل الروسي، علمًا أنّ أوساطاً دبلوماسية تكشف أنّ الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ حاول التواصل غير مرّة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، معلناً رغبته بفتح حوار جاد معه، من دون أن يلقى التجاوب المطلوب من الجانب الروسي، الذي بعث له برسالةٍ واضحةٍ مفادها أنّه لا يرى في تركيا شريكاً صالحًا للحوار.

وإذا كانت الرسالة الروسية الحادة تحمل في طيّاتها تأكيدًا جازمًا بأنّ حلم الأتراك بإقامة المنطقة العازلة في الشمال السوري بات بحكم الملغى وإلى الأبد، فقد ساد في الأوساط السياسية والعسكرية سؤالٌ جوهري، ألا وهو: هل تغامر تركيا بالدخول عسكريًا في سوريا؟

الواضح حتى الآن أنّ أردوغان بات على يقين بأنّه لن يكون بمقدوره تغيير قواعد اللعبة، التي تغيّرت أصلاً مع التدخل الروسي المباشر في سوريا، معطوفاً على التفاهم الأميركي الروسي بتسليم مفاتيح الملف الروسي إلى موسكو، وهو ما بدأت تجلياته تظهر على الأرض من خلال الانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه على الأرض، والتي يرجّح كلّ المتابعين أنّها ستستكمَل من خلال تحرير باقي المناطق الرئيسية مثل حلب وإدلب، وسدّ كلّ منافذ الدعم الذي كانت تقدمه حكومة رجب أردوغان للإرهابيين.

ولعلّ ما يزيد من أرجحية هذا الرأي ما قاله الخبير الفرنسي في سياسات الشرق الأوسط جيرار شايان، ومفاده أنّه "لو لم يكن أردوغان حاكمًا لتركيا لكان باستطاعتنا القول أنّ الطاولة انقلبت منذ زمن بعيد وقضي الأمر". وهذا الأمر إن دلّ على شيء، فهو على أنّ أردوغان، المسكون بمرض العظمة واستعادة أمجاد السلطنة العثمانية، والذي دفعته مغامراته غير المحسوبة إلى خارج أيّ عملية تفاوضية حول سوريا، بات اليوم يقف متفرّجاً من خارج اللعبة الإقليمية.

بيد أنّ السؤال الذي يطرح نفسه إزاء كلّ ذلك، يتمحور حول ما إذا كانت هذه المستجدّات ستدفع أردوغان لارتكاب المزيد من المغامرات الحمقاء، علمًا أنّ نتيجتها لن تكون سوى نهاية عهده وداوود أوغلو، ليس في تركيا فقط بل في المنطقة برمّتها...