في معراب، البلدة الكسروانية الهادئة، كان الحدث المدوّي: المصالحة التاريخية بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، الخصمان اللدودان في السياسية والزعامة في الوسط المسيحي. نهجان مختلفان طبعا مسار الرجلين، ولم يرث أي منهما الموقع السياسي والزعامة. تخاصما في الحرب واستُهدفا في السلم، والتقيا بعدما تبين أن الحفاظ على نظام المحاصصة هو أم المعارك في زمني الحرب والسلم.

الأزمة الرئاسية محطة مفصلية اليوم. إنها مقياس الشراكة الفعلية وامتحان النيات لعيش مشترك سويّ في لبنان ما بعد الحرب والوصاية. مصالحة معراب فتحت الطريق لإعادة الانتخابات الرئاسية الى لبنان بعد 45 سنة من الترحال، منذ العام 1970. ولم يكن هذا الأمر متاحاً لولا التقاء الخصوم الأقوياء، في الوسط المسيحي تحديداً. ثمة خيار آخر بلا شك، «الترويكا»، المجرَّبة والمطمئِنة، لكن على حساب الدولة ومؤسساتها ومصالح الناس.

لسنوات خلت كانت الرئاسة الأولى جائزة ترضية لكل عابر سبيل من الداخل او الخارج، ولم تكن المسألة مرتبطة باتفاق الطائف. عصا التهويل بالحرص الموسمي على الطائف باتت بلا جدوى. الانتهاكات التأسيسية لاتفاق الطائف حصلت مباشرة بعد إقراره وتعديل الدستور. تساوى مؤيدو الطائف مع معارضيه من القادة المسيحيين في الاستهداف السياسي، في السجن والمنفى والتخوين. عون عارض الطائف وجعجع أيده. والبطريرك صفير أيّد الطائف وحذر مراراً من التمادي بانتهاكه، وكان للطائف مؤيدون ومعارضون من كل الطوائف. الرئيس رينه معوض رفع راية الطائف واغتيل، والرئيس الياس الهراوي انتُخب بسبب موقفه من العماد عون وليس من الطائف، وتم التمديد له لا بسبب استحالة إيجاد البديل بل خدمة لمصالح أصحاب النفوذ في الداخل والخارج. والرئيس إميل لحود انتُخب ومُددّت ولايته لأسباب غير مرتبطة بالطائف أو بالطوائف. والرئيس ميشال سليمان جاء بتسوية داخلية وخارجية قضت على آخر معالم الطائف.

انسحب الجيش السوري في 2005، وكان الوسط السياسي المسيحي الأكثر اعتراضاً والأعلى صوتاً بوجه الوصاية، ولم يتغير شيء. جائزة ترضية تمثلت بإخراج الدكتور جعجع من السجن ومعه قتلة الجيش اللبناني في أحداث الضنية. قبل اصطفاف 8 و 14 آذار، نشأ تحالف عريض ضمّ القوى السياسية جميعها ومن كل الانتماءات - ومنها «حزب الله» المدعوم من إيران المتحالفة مع سوريا، والمرتبطة آنذاك بعلاقات وثيقة مع السعودية - باستثناء العماد عون لأنه نال أكثرية مسيحية حاسمة في انتخابات 2005 النيابية وأوجد واقعاً سياسياً مغايراً للمألوف. الرسالة واضحة، تكررّت أخيراً مع الحليف، السجين سابقاً، الذي صار حراً وغرّد خارج السرب. جَمْعُ الأضداد في 2005 كان جائزاً باسم «شبكة الأمان». أما عندما يجتمع أضداد المسيحيين، يتحول الأمان سوء ائتمان والشبكة شركاً. حوار «ربط النزاع» مشروع في مكان، بينما قرار فكّه مرفوض في مكان آخر.

بمعزل عن النتائج السياسية ومآل الرئاسة، مصالحة القوات والتيار أسقطت أوراق التين. مضمون المعركة منذ 2005 إسقاط العماد عون، الزعيم قبل الرئيس. وصاية داخلية بدل الخارجية تفي بالغرض. المطبخ الرئاسي داخلي إذا اراد الطباخون، ولم تعد تنفع المبالغة في الكلام عن «الخارج» ودوره في بلد لم يعد ساحة حروب مفتوحة تقاس بأهمية ساحات القتال في الجوار العربي. مكالمة هاتفية أجراها الرئيس الفرنسي هولاند مع النائب المرشح سليمان فرنجيه كانت، بنظر البعض، دليلاً قاطعاً للتأييد الدولي لفرنجيه، وكان سبقها دردشة بين وزيري خارجية إيران والسعودية لم تدم مفاعيلها طويلاً بعد القطيعة بين الدولتين. همسة سفير من هنا ووشوشة أو وشاية من هناك كافية لتحرك مخيلة البعض لربط الاستحقاق الرئاسي بسياسات الدول. وعلى سيرة الأخيرة، أيران أوكلت الشأن اللبناني إلى «حزب الله» وأعلنت ذلك، وفي السعودية مواقف متعددة من لبنان وأزمات المنطقة. سوريا، الأكثر نفوذاً في لبنان في العقود الأخيرة، في أتون الحرب وعراق صدام وليبيا القذافي ذكرى من الماضي. معراب والرابيه «غلبتا» طهران والرياض وواشنطن وباريس وموسكو. للخارج، لا سيما الإقليمي، كلمة مسموعة في بعض الأوساط السياسية في لبنان، إلا أن الهامش المتاح اليوم للداخل يُحسب له حساب.

صاحبا المبادرة الرئاسية الأخيرة عملا بنصيحة الحلفاء والأعداء والأصدقاء والوسطاء، فتصالحا جهراً وعلناً. أيد الدكتور جعجع ترشيح العماد عون ولم يعد مرشحاً. وللطرفين مصالح، سياسية وطائفية، وأيضاً وطنية، مثلما هي مصالح أصحاب المبادرات الرئاسية الأخرى. والنظام السياسي اللبناني يصحّ فيه اي توصيف، طائفي رجعي او تقدمي وطني، بينما العالم العربي يسجل الآن أعلى درجات التسامح والديموقراطية والحريات، والعلمانية على الأبواب. في أوقات فراغهم، ينكبّ قادة المحاور في النزاعات الإقليمية على الاستنارة بفكر روسو وابن رشد.

لم يدّع زعماء لبنان وأحزابه عمل البرّ والإحسان. أما في الشأن الوطني فالمرشح الذي يلقى دعم «حزب الله» و»القوات اللبنانية» ويحاور سعد الحريري منذ 2005، فلا بد أن يكون في وطنيته متقدماً على سواه من أصحاب المواقع النافذة والطامحين لها.