لعب الإعلام العربي أسوأ أدواره منذ اندلاع ما سمي بالربيع العربي وقد ساهم بدرجة كبيرة بتأجيج الصراعات وإثارة النعرات المذهبية والعرقية في البلاد العربية. سُخرت الوسائل الاعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة ووسائل التواصل الاجتماعي لخدمة سياسات هذه الدولة او تلك واستخدمت في هذه المعركة أقذر عبارات تدمير الفكر الانساني والتحريف الديني الذي كانت نتيجته مشهدا دمويا للانسان الذي كرمه الله وتدميرا للحضارات والبنى التحتية.

وفي الوقت الذي كان يُراهَن عليه لتوحيد الرؤى والقتال بحد السيف الايجابي لقطع دابر الفتنة ولعب دور إطفاء الحرائق في المنطقة لا تسعيرها، فاذا بمعظم الاعلام العربي يمسك بحد السيف السلبي ويرسم سياسات التقسيم والتشرذم بين دول العالم العربي والاسلامي ذو الطبيعة الخصبة والمهيأة للاشتعال ويحول شاشاته منابر لدعاة الفتن وحبر صفحاته الورقية سموما متنقلة في الجسد العربي.

لا شك انه خلال هذه المرحلة فقدت المهنة الكثير من نبلها وأخلاقياتها، فغابت الحقيقة الموضوعية وحضرت الجرأة الدموية، غابت الحرية البناءة وحضرت التعبئة والتبعية الهدامة، غابت الرؤية الواضحة وحضرت العشوائية والتشهير، وُلدت الفوضى المنظمة وكانت "داعش" بإعلامها المنظم ورؤيتها الاستراتيجية. جيش إعلامي محترف ومتعاون، ولاؤه لمصلحة "دولته" التي وفرت له كل وسائل المعركة فحقق انتصارات إعلامية ليس على صعيد المنطقة العربية فحسب بل على صعيد العالم وساهم معظم الاعلام العربي عن قصد او غير قصد في نجاحها فكانت النتيجة صعود نجم "داعش" وتقدم محور سياسته في المنطقة على حساب سياسة "الممانعة".

15 ألف وثيقة سنويا

صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية نشرت تقريرا تحت عنوان "صحافيو داعش برتبة أمراء"، تحدث عن "ان صحافيي التنظيم يعاملون معاملة الأمراء باعتبارهم "كوادر الحرب الإعلامية" و"الجنود المجهولين" الذين يسهرون للترويج لنشاطات التنظيم اليومية ولتلميع صفحته لاستقطاب مقاتلين جدد". وتشير الصحيفة الى ان "ليس من باب الصدفة، إيلاء الإهتمام بـ"الجبهة الإعلامية" التي يديرها تنظيم "داعش"، فهو التنظيم الوحيد تقريبا الذي نقل الحرب إلى الفضاء الإفتراضي بموازاة الحرب التي حمي وطيسها بين مقاتليه وقوات التحالف في سوريا والعراق، وهذا ما جعله يخلق لنفسه وزنا على الساحة. ويضيف التقرير: "الصحافيون الذين يتكتلون في "ألوية إعلامية"، تجمع المصورين والمراسلين والكتاب والمخرجين وخبراء المونتاج خصص لهم سيارات للعمل وهواتف ذكية وتجهيزات معلوماتية حديثة تستجيب لآخر صرعات التكنولوجيا، اضافة الى الامتيازات المعنوية والمادية التي يتمتع بها الصحافيون فبعضهم يتقاضى أجورا تبلغ 7 أضعاف الحد الأدنى للرواتب التي يوزعها التنظيم على مقاتليه، كما انهم معفيون من دفع الضرائب، ويضع في تصرف عائلات صحافييه الأكثر استحقاقا وتميزا، "فيلات" فخمة".

ويصف مركز الأبحاث البريطاني "كويليام" المتخصص في مكافحة التطرف، مركز القيادة الإعلامية لتنظيم "داعش" بـ"القاعدة الأساس" التي تبث ما لا يقل عن 15 ألف وثيقة سنويًا، منها 800 فيديو، ونحو 20 مجلة، تصدر بـ 11 لغة. في المقابل لا تشكل أفلام الفيديو التي تركز على الأجواء الإرهابية، سوى 2.13% من مجموع الأشرطة".

التشظي يحول دون وضع استراتيجية

إذا بعد كل ما حدث ويحدث وقبل المواجهة الإعلامية يجب ان نعترف بالحقيقة ولو كانت مرة وهي أن "داعش" ليس تنظيما مضطربا أو وحيدا، فمن يملك الموارد البشرية والاقتصادية والعسكرية الهائلة ويحتل الأخبار في العالم والشاشات ومواقع التواصل لا بد أن يكون صاحب مشروع واضح ورؤية استراتيجية.

يشير مدير الفرع الاول لكلية الاعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور رامي نجم الى ان "داعش" يعلم جيداً أهمية الإعلام وتأثيره الكبير على الرأي العام، لذلك لم يتوقف يوماً منذ اعلن عن نفسه عن استخدام افضل التقنيات لتقديم المعلومة بأفضل اطار ممكن، بينما نجد ان الانظمة العربية لم تتوصل بعد الى وضع استراتيجية ناجحة لمواجهة الدعاية الداعشية وذلك لاسباب متعددة لعل ابرزها هذا التشظي الحاصل في الجسم العربي مما يفتح المجال واسعاً لتغلغل الرسائل الداعشية السامة في مجتمعنا العربي والتي تبث الصور الدموية والصادمة بكميات كبيرة فتقوم بعض وسائل الاعلام المحلية بإعادة بثها من دون اي حس بالمسؤولية الاجتماعية وربما جهل بالتأثيرات الخطيرة للاعلام الداعشي وهذا الموضوع خطير جداً وآثاره النفسية مدمرة.

لتكتل إعلامي موحد

ولنائب رئيس المجلس الوطني للإعلام إبراهيم عوض وجهة نظر ايضا حيث يرى "أن مواجهة الإعلام التكفيري تكون عبر انشاء تكتل موحد يضم كل من يريد محاربة الارهاب سواء عبر الاعلام او الحكم وتحقيق هذه الغاية تبدأ بعقد قمة إعلامية لكل الدول المعنية بمحاربة الإرهاب بالفعل وليس بالقول فقط".

ويضيف قائلا: "لا أتحدث عن قمة كبقية القمم تأخذ قرارات ترمى بالأدراج ولكن لا بد من أن يكون هناك تكتل إعلامي من جميع الدول التي تحارب الإرهاب لكي تساعد بعضها"، داعيًا إلى ضرورة إنشاء صندوق للدعم المالي. ويضيف عوض: "داعش يتلقى دعما ماليا ليس فقط من دول عربية، بل ومن شخصيات أجنبية ورجال أعمال أجانب وعرب، ولهذا نحن أيضا لدينا شخصيات أنعم الله عليهم يمكننا أن نأخذ منهم لنملأ هذا الصندوق وبإمكاننا القيام بمواجهة إعلامية سواء بإنشاء فضائيات أو تعزيز مؤسسات إعلامية حالية تحارب الإرهاب".

بين حرية الإعلام والفتنة

إذا استطلعنا آراء شريحة كبيرة من الباحثين والاعلاميين والمراقبين لأجمعوا على أن الإعلام العربي المنقسم على ذاته يعيش نكسة حقيقية تترجم واقعًا مريرًا وهزيلاً وصل اليه "الممانع" الذي يفتقر للإحترافية ويخفق في المواجهة في ظل الفوضى وغياب المشروع أو من يدّعي نصرة "الثوار" والذي ساهم في التضليل والتحريض وساعد في تفشي البيئة التكفيرية. من هنا واضافة الى ما تقدم يجب ان نتوقف عند بعض الحقائق:

أولا: أن وسائل الاعلام العربية المدعومة من هذا النظام أو ذاك لعبت دورًا لا يستهان به في دعم "داعش" ربما يفوق دورها الاساسي، وتحت عنوان محاربة الإرهاب هنا والسبق الصحفي هناك تم دعم الماكينة الاعلامية والاعلانية لهذا التنظيم.

ثانيا: تعثر الإعلام العربي في مواكبة الأحداث الميدانية ومواجهة المد التكفيري رغم كل المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك تحت مسميات عدة لمواجهة "الاعلام التكفيري" وكيفية التعامل مع البروباغندا الداعشية، إلا ان مفاعيلها واصداءها لم تتعدّ جدران قاعات الفنادق حيث تعقد.

ثالثا: غياب الرقابة الرادعة والمحاسبة، حيث أنّ حرية الإعلام في الدول المتحضرة والمتطورة لا تتعارض مع أخذ إجراءات بحق وسائل الاعلام التي تسيء للمجتمع وتثير الفتنة وتعرض أمن الاوطان للخطر، فالصحافة الحرة مهنة بناء المجتمع لا تضليله وتهديمه.

من هنا على الإعلام العربي أن لا يكون وصمة عار على جبين عروبته بل عليه ان يحدد الاهداف الاستراتيجية ويبني المنظومة الإعلامية التي تساهم في تحقيق هذه الاهداف وعدم التلهي بالصراعات المحلية الضيقة وتعليق اي فشل على شماعة جاهزة اسمها الغرب، على أمل صحوة السلطة الرابعة لا بل السلطة الاولى لهذه الدول، فتتحمل مسؤولياتها في لعب دورها الوطني والاسلامي وتنهي "أفلام الرعب الداعشية".