يُبيِّن لنا الكتاب المقدّس بعهدَيه القديم والجديد نوعَين من الأصوام. نوعان متغايران ومختلفان بالرّوحانيّة والمضمون الدّينيّ، الأوّل صومٌ مرفوضٌ عند الله لأسبابٍ يُبيِّنها الكتاب، والآخر صومٌ مقبولٌ عند الله وأيضًا لأسبابٍ يوضّحها الكتاب مباشرةً.

الصّوم المرفوض والصّوم المقبول عند الله

بين أشعيا والإزائيّين (متّى، مرقس، لوقا)

إنّ الأسباب الَّتي تدعو الله لعدم قبول الصّوم الَّذي يقوم به الأفراد أو الجماعات تكمن في الكبرياء، النّميمة، والصّوم الَّذي يهدف لمديح النّاس، وليس من أجل الله، والرّوحانيّة المزيّفة، والعيش في الخطيئة، وعدم اتّخاذ أيّ قرارٍ بتغيير الذّهن والحياة...

يتحدّث النّبيّ أشعيا قائلاً: "ما بالُنا صُمنا وأنتَ [الله] لم تَرَ، وعذّبنا أنفسنا وأنتَ لم تعلم؟ في يوم صومكم تجدون مَرامكم، وتُعامِلون بقسوةٍ جميع عُمّالكم. إنّكم للخصومة والمشاجرة تصومون، ولتَضرِبوا بلكمة الشّرّ. لا تصوموا كاليوم، لتُسمِعوا أصواتكم في العلاء. أهكذا يكون الصّوم الَّذي فضّلتُه، اليوم الَّذي فيه يُعذِّب نفسه. أَإذا حَنى رأسه كالقصب، وافترش المِسح والرّماد، تُسمّي ذلك صومًا ويومًا مرضيًّا للرّبّ؟" (أشعيا 58: 3-5). من هنا يتّضح أنّ الصّوم المرفوض من الله هو:

الصّوم الشّكليّ المظهريّغير النّابع من أعماق القلب، فهذا صومٌ يمارسه الإنسان لكي يظهر للعَلَن أنّه صائمٌ، وهو الصّوم نفسه الَّذي حذّرنا المسيح منه قائلاً في الإنجيل المقدّس: "وإذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمرائين، فإنّهم يُكلِّحون وُجوههم، ليظهر للنّاس أنّهم صائمون. الحقّ أقول لكم: إنّهم أخذوا أجرهم" (متّى 6: 16). المرائي هو الَّذي يكون له على المسرح وجهٌ آخر[1]. إنّه الإنسان القادر على أن يلبس أقنعةً كثيرةً كلّما اقتضت الحاجة إليها، ليُغطّيَ حقيقته الذّاتيّة الَّتي هي على نقيض ما يظهر للعَيان. إنّه يكون على كلّ شيءٍ في أعماق القلب، ويتظاهر بوجهٍ آخر أمام النّاس. أمّا أنت فلا تُبدّل وجهك، بل كما أنت، هكذا اِظهَر للآخرين. لا تُبدّل مظهرك عابسًا وساعيًا وراء الشّهرة عن طريق التّظاهر بالصّوم والإمساك، لأنّه لا نفع للإحسان الَّذي يُطبَّل له، ولا ثمر للصّوم الَّذي يُشهَّر أمام النّاس، أي كلّ ما يقوم به الإنسان بُغية التّظاهر أمام الآخرين[2].

النّوع الآخر من الصّوم غير المقبول عند الله هو:صوم الفريسيّينالَّذي لا يخلو من الكبرياء الأعمى والأنانيّة والنّميمة، وهو يظهر في المَثَل الَّذي ضربه السَّيِّد المسيح عن الفريسيّ والعشّار. هذا الفريسيّ الَّذي وقف أمام الله يتباهى بفضائله ويقول في نفسه: "اللَّهُمّ، إنّي أشكرك لأنّي لستُ كسائر النّاس الخَطَفَةِ الظّالمين الفاسقين، ولا مثل هذا العشّار. فإنّي أصوم في الأسبوع مرّتَين وأُعشّر كلّ ما هو لي" (لوقا 18: 11-12). بينما العشّار وهو الإنسان الخاطئ في نظر الفريسيّ، "فوقف عن بُعدٍ ولم يُرِدْ أن يرفع عينَيه إلى السّماء، بل كان يقرع صدره قائلاً: اللّهُمّ ارحمني أنا الخاطئ" (لوقا 18: 13). لذلك، فإنّ الفريسيّ لم يخرج من الهيكل مبرَّرًا، مثلما خرج العشّار المنسحق القلب (لوقا 18: 14). وهذا المثل يُرينا أنّ الصَّوم الَّذي لا يمتزج بالتّواضع والانسحاق هو صومٌ مرفوضٌ من الله لأنّ صاحبه يظنّ في نفسه أنّه بارٌّ ويحتقر الآخرين (لوقا 18: 9).

أمّا الأسباب الَّتي تدعو الله لقبول مِثل هذا الصّوم، فهي: الانسحاق، التّواضع، أعمال الرّحمة والمحبّة، التّوبة الحقيقيّة، الصّلاة، وعدم التّظاهر أمام النّاس، أي عيش حقيقة الصّوم الرّوحيّة...

ويُكمِل أشعيا النّبيّ كلامه عن الصّوم فيقول: "أليسَ الصّوم الَّذي فضّلتُه هو هذا: حلُّ قيود الشّرّ وفكّ رُبُط النِّير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا، وتحطيم كلّ نير؟ أليس هو أن تكسر للجائع خُبزك، وأن تُدخِل البائسين المطرودين بيتك، وإذا رأيتَ العريان أن تكسوه، وأن لا تتوارى عن لحمك؟ حينئذٍ يبزُغُ كالفجر نورك، ويندَبُ جُرحك سريعًا، ويسير بِرُّك أمامك... حينئذٍ تدعو فيَستجيب الرّبّ"... (أشعيا 58: 6-10). وفي خطٍّ متوازٍ، يُكمِل السَّيِّد المسيح كلامه عن الصّوم الحقيقيّ المبارَك عند الله، فيقول: "أمّا أنت، فإذا صُمت، فادهُنْ رأسك واغسِل وجهك، لكَيلا يظهر للنّاس أنّك صائم، بل لأبيك الَّذي في الخُفية، وأبوك الَّذي يرى في الخُفية يُجازيك" (متّى 6: 17-18).

فالله يريد القلب النّقيّ، أكثر مِمّا يريد الجسد الجائع. والإنسان الَّذي يصوم فمه عن الطّعام، ولا يصوم قلبه عن الخطايا، ولا يصوم لسانه عن الأباطيل، فصوم هذا الإنسان باطل، حتّى لو أسلم جسده ليُحرَق، فلا ينتفع شيئًا (أنظر 1كورنثس 13: 3).

[1]يؤكّد الأب جان باول اليسوعيّ في كتابه "لماذا أخشى أن أُحِبّ؟" نظريّة الإنسان المقنَّع والممثِّل وأخطارها على نموّه، فيقول: "عندما نلجأ إلى الأقنعة والتّمثيل، نقضي على كلّ إمكانيّة نموٍّ إنسانيٍّ وشخصيّ. فما دُمنا نعيش بعيدًا عن ذواتنا، نبقى منقطعين عن كلّ إمكانيّة نموّ. نحن نعيش وكأنّنا على خشبة مسرح. وعندما يُسدل السّتار، في نهاية الرّواية، نجد أنفسنا حيث كنّا عندما رُفِعَ السّتار، أُناسًا يفتقرون إلى النّضج الشّخصيّ" (ص42).

[2]يقول السَّيِّد المسيح في الإنجيل المقدّس: "إيّاكم أن تعملوا بِرَّكم بمرأًى من النّاس لكي ينظروا إليكم، فلا يكون لكم أجرٌ عند أبيكُمُ الَّذي في السّموات. فإذا تصدَّقتَ فلا يُنفَخْ أمامك بالبوق، كما يفعل المراؤون في المجامع والشّوارع ليُعظِّمَ النّاس شأنهم. الحقّ أقول لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنت، فإذا تصدَّقت، فلا تعلم شِمالُك ما تفعل يمينك، لتكون صَدَقَتُكَ في الخُفية، وأبوك الَّذي يرى في الخُفية يُجازيك" (متّى 6: 1-4). مَثَلٌ آخر بالغٌ في الرّوعة ويُكلِّم حياتنا الكنسيّة اليوميّة هو "فلس الأرملة" (مرقس 12: 41-44) الَّذي تكلّم عنه يسوع بعد أن وجّه تحذيرًا شديد اللَّهجة للكتبة الَّذين يُحِبّون تصدُّر المراكز والمقاعد الأولى في المجتمعات والمجامع والمآدب (مرقس 12: 38-40).