58 فقط لا غير”كلّفوا خاطرهم” وتحمّلوا عناء التوجّه الى ساحة النجمة بخلفيّة “استحالة” الانتخاب. أرادوا أن يتخذوا من المجلس المشلول منبرًا رغم كثرة منابرهم لإيصال الرسائل ونزع التهم عنهم وغسل أيديهم مرّة جديدة من عرقلة انتخاب رئيس البلاد.

كسائر السابقات مرّت جلسة الأمس مع فارق بسيط أنها لم تكن الأقل نصابًا في مسلسل الجلسات التافهة، ولكنّ مجرّد ارتباطها بترشيح الدكتور سمير جعجع للعماد ميشال عون جعلها محطّ أنظار عشّاق اللعبة الرقمية... فعل هؤلاء ما أرادوا وكان لهم ما توقعوا: أقل من نصف المجلس حضر الجلسة بلا مفاجآت على مستوى التغيُّب بعدما أعلنت كلُّ كتلة عن موقفها من الجلسة قبل موعدها بساعات.

تشريح...

ليس الخبر في الجلسة نفسها التي أرجئت كسابقاتها للمرة الخامسة والثلاثين حتى الثاني من آذار المقبل، بل في ما سبقها وما سيليها من تطوّراتٍ رئاسيّة. وإذا كان تشريح الحضور غير مجدٍ رغم كلّ “التهليل والتبهيل” اللذين خرقا مشهدية الأمس، فإن تشريح بعض مواقف الكتل ونواياها يحمل نوعًا من الرؤية الرئاسيّة التي يذهب بها بعضهم الى ما وراء الحدود اللبنانية، الى الأزمة السورية التي تطول ومعها يطول الشغور، وهو الرأي غير المُعلَن بالنسبة الى كثيرين من النائين بأنفسهم عن أزمات الجوار، والمقتنعين أو المستقنعين بأن الحلّ داخلي بامتياز.

التشكيك تابع...

يبدو حزب الله أكثر المازجين بين وضوحٍ يتجلى في آراء معلنة وضبابيّةٍ في حقيقة رغبته في وصول عون الى بعبدا. فرغم كلمة السيد حسن نصرالله الحاسمة، يكثر المشكّكون في سياسة الحزب ومدى حاجته في هذه الظروف بالذات الى رئيسٍ جديد يُثمر حكومة جديدة أو في أحسن الأحوال الى خلط أوراق سياسيّ فيما مهمّته في سورية لم تُنجَز بعد. لا يحوم الشكّ حول وفاء الحزب وهو المعروف بالتزامه تعهّداته، والخارج منتشيًا من حدثيْن تليا كلمة السيّد ليؤكدا أن علاقته بالرابية ممتازة: إحياء الذكرى العاشرة لوثيقة التفاهم في كنيسة مار مخايل، وزيارة الى الرابية فيها الكثير من التودّد وتجديد المُثبت أصلاً من دعم لامتناهٍ للعماد عون. لم يتوجّه الحزب كما قال الى المجلس أمس، ولن يفعل طالما ظروف انتخاب العماد عون لم تتوفّر بعد، وهو ما يشي بأنه لن يزور البرلمان قريبًا طالما هناك مرشّحان يشقّان صفّ 8 آذار رغم أن هذا الفريق يحلو له تصوير الصورة ورديّة ورابحة في شتّى الأحوال بوجود مرشّحَين من الصفّ نفسه أولاً، وبتكريسه معادلة أن رئيس البلاد يجب أن يكون منه ثانيًا.

همّ برّي واضح

ليس الرئيس نبيه بري غارقًا في هذه الدوّامة. فالرجل الذي لا يعيش سوى همّ إنعاش مجلسه وإعادة الحياة اليه، يبدو متصالحًا مع فكرة عدم دعمه للعماد عون، وإن كان يؤثر الصوم مع أبناء التقويم الغربي كي لا يؤجّج النيران داخل الصفّ الواحد الذي يكفيه توتّر عون-فرنجية. جلّ ما يفعله أنه يدعو ويرجئ، وما بين الدعوة والإرجاء مبادراتٌ صغيرة تطفو على شفتيه سرعان ما تُجهَض بفعل عدم قدرته رغم “جبروته وحنكته السياسيَّين” على مقاومة الستاتيكو الشرس. وفي الانتظار، قليلٌ من الاستفزاز لعون والغزل لفرنجية لا يضرّه بشيء لا سيّما أن الاستفزاز والغزل على الجبهتين متبادلان.

رئيسٌ من المريخ

الى المختارة درْ. ففيما يبحث الرجل عن رئيس على تويتر تارةً من لندن وتارةً من على بساط سندباد وطورًا من المريخ، يبحث قارئوه من عارفيه وغير عارفيه عنه وعن موقفه. لا يعفي جنبلاط أمرًا ولا حدثًا، وبين سطور الضرب على وتر سورية وإيران رئاسيًا، يجد لنفسه فسحة سخريّة محليّة. ولمَ لا؟ فمرشُّحه موجود يقف على أبواب المجلس مستقبلاً النواب كأنهم آتون لتهنئته بظفرٍ ما، فيما يجلس مرشِّحُه على أريكته في المختارة متصفحًا “آيباده” وفاردًا قدميه المنهكتين من رحلة لندن، ليطير الى المريخ ويعود بعدها الى الأرض من دون أن يجد أن إنشًا رئاسيًا واحدًا تقدّم أو تأخر. الرجل هو طاهي تسوية فرنجية ومبارك تسوية جعجع وداعم تسوية هنري حول وووو...

للمرة الأولى يغيب...

للقواتيين حكاية أخرى في الجلسة الخامسة والثلاثين. للمرة الأولى لا يجلس جعجع أمام شاشته محوقًا بثلةٍ من الصحافيين والمؤيدين ليراقب سير جلسةٍ من المفترض أنه مرشُّحٌ رسمي فيها ومسمّى على لائحة 14 آذار في وجه هنري حلو. للمرة الأولى لا يخرج الحكيم في مؤتمر صحافي معلقًا على تهاوي نصابٍ جديد يعرف أنه لن يتوفّر يومًا من أجله حتى من أقرب حلفائه قبل خصومه، ليدعو العماد عون الى النزول الى المجلس متّهمًا إياه بالتعطيل. لورقة النوايا بينهما رهبتُها، ولمفاجأته الأخيرة مفعولٌ “إكسيري” يجعل منه شخصًا آخر مسوّقًا لسواه ومعلنًا انسحابه رسميًا على الأرض في أولى جلسات ما بعد “الترشيح الرئاسي”. ومع ذلك حضر نواب الكتلة كما في السابق ركونًا الى قناعةٍ منهم بضرورة استمرار عقد الجلسات المخصّصة لانتخاب الرئيس عوض الذهاب الى جلساتٍ تشريعيّة يرفضونها شأنهم شأن الكتائبيين.

قنبلة بكفيا الخفيفة

وبالحديث عن الكتائبيين، لم يكن غريبًا من رئيس الحزب الشاب سامي الجميّل أن يفجّر قنبلة ترشيح والده أمين وهو المرشّح الذي لم تنتفِ أسهمه يومًا في بورصة الأسماء وإن بقيت مطمورة. اليوم تبدو المعادلة من حيث المنطق لصالح بكفيا متى تمّ احتسابُها من باب “الأوراق المحترقة” أو الآيلة الى الاحتراق. وحده اسم أمين الجميل لم يُزجّ بعد في دوامة الترشيح والترشيح المضاد، ربّما لأن الرجل لم يجد بعد من يتبنى ترشيحه سوى ابنه وبعض الكوادر الأوفياء، وربّما لقناعةٍ من الدول المؤثرة في القرار بأن حظوظه معدومة أمام عون وفرنجية وحتى جعجع. ولعلّ ما يصعّب الأمر عليه إنما يتجسد في استحالة العودة الى الوراء والإتيان بمرشّح من خارج حلقة محور “الممانعة”، وهو ما يدرسه الجميّل جيدًا، معيدًا فتح خطوط التلاقي مع حزب الله تحديدًا من خلال اعتذارٍ عن نشر مقالٍ مسيء على موقع الكتائب الرسمي، ومن ثمّ استئناف الحوار الذي كان قائمًا بينهما في الأساس “عالناعم” وبلا مؤثراتٍ ضوئية أو صوتية.

يُخيَّل للمستقبل!

وحدها كتلة المستقبل تبدو ممسكةً بزمام الأمور أو هكذا يُخيَّل لها. فنوابُها الواثقون من ترشيح رئيسهم لفرنجية يتمسّكون بأقوالٍ تصدر في بيان الكتلة الأسبوعي ومنها تجديد تأكيدهم دعم فرنجية رغم أن “ترشيحه كان مجرّد فكرة” بالنسبة الى رئيس الكتلة فؤاد السنيورة منذ زمن غير بعيد. اليوم جلّ ما ينتظره هؤلاء ليرتاحوا لا يكمن في إسكات خالد الضاهر الذي يبدي اهتمامًا طارئًا بدعم عون على حساب فرنجية، بل بخروج الرئيس سعد الحريري معلنًا الصيغة الرسمية لترشيح فرنجية وهو ما قد يفعله قريبًا على ما تؤكد مصادر مواكبة، ليزيد الفوضى الرئاسية فوضى طالما أنه خاسرٌ في شتى الأحوال، وطالما أن الأمر السعودي بدعم عون لم يأتِ بعد. ولكن وسط كلّ هذه السلوكيات الممارَسة والمدروسة ممارستُها مستقبلاً، خرقٌ غير مثبتٍ بعد بقنوات تواصل عادت لتفتح بينهم وبين الرابية علّ الأخيرة تفلح في انتزاع “ميثاقيّة” وصول عمادها الى بعبدا بتأمين دعمٍ سنّي له. وهو السيناريو الوحيد الذي يرتضيه عون ومعه حليفه حزب الله ركونًا الى ضرورة عدم تغييب أي مكوّن عن جلسة انتخاب الرئيس حتى لو توفّرت الأصوات المنشودة في غياب السنّة.

... والرابية؟

في غمرة كل هذه الصيغ، يقف التيار الوطني الحرّ حائرًا وغير حائر. يبحث عن موجبات وصول عماده الى بعبدا وعن أسباب تأخر وصوله. يفهم اللعبة بحذافيرها. يعي أن الحكاية ليست في انسحاب فرنجية أو بقائه على ترشيحه، بل في كيفية انتزاع ثقة المستقبل بعد هلاك محاولات التقارب الأولى وانتهائها بصفعةٍ “حريرية” بعد كلّ “الضرب والطرح” من الوعود الواهية. رغم هذا التاريخ غير المشجّع، لا يجد البرتقاليون منفذًا سوى بالضرب على كلّ الأوتار مع إبقاء جرعات الأمل عالية في نفوسهم كما في ماكيناتهم الانتخابية من دون رفع سقف التفاؤل خوفًا من خيبةٍ جديدة. والى حين إرساء شيءٍ من هذا القبيل، يتحصّنون بحليفهم المسيحي الجديد الذي يبدي تمسُّكًا غير مسبوق حتى من الحلفاء بوصول العماد الى القصر الشاغر.

هكذا ظنوا ذات يوم

لم يكتمل النصاب السياسي بعد قبل الحديث عن نصابٍ برلماني. فالرئاسة ستسير على ما يبدو درب جلجلة جديدًا قد يمتدّ معها الى زمن الصوم الشرقي كي لا يعتب أحدٌ من المسيحيين المرمية كرة الرئاسة في ملعبهم... أو هكذا ظنوا وصدقوا ذات يوم.