منذ أن زار رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون رئيس "​القوات اللبنانية​" ​سمير جعجع​ في معراب، وتم الاعلان من هناك عن ترشيح الثاني للاول في الانتخابات الرئاسية، والحملة مستمرة على الاثنين تحت شعارات ومبرّرات عدة.

منذ 18 كانون الثاني الفائت، لم تهدأ الانتقادات التي وجّه أصحابها سهامهم على هذا الاتفاق، ورأوا فيه "محور شر" يجب التخلص منه مهما تكن العواقب، دون ان يحددوا أسباب هذا الهجوم ودوافعه.

بداية، لا بد من القول ان اي تقارب بين اي فريقين او اكثر من اللبنانيين، ينعكس ايجابا ًعلى الوضع العام في البلد وعلى مؤيدي الطرفين مهما كانت انتماءاتهم السياسية والطائفية، مع العلم ان تقارب قوّتين من الطائفة والمذهب نفسه امر اكثر من مطلوب لانه غالباً ما تكون الخلافات بين ابناء المذهب الواحد الاكثر عنفاً وحقداً، وقد شهدنا خلال الاعوام المنصرمة مصالحات وتفاهمات بين افرقاء غير مسيحيين، كانت محط تقدير وتشجيع من قبل جميع اللبنانيين.

يأخذ البعض على اتفاق التيار "الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، انه اتى "على حساب" الشهداء ودماء ابرياء وخلافات دفعت ابناء العائلة الواحدة الى الانقسام وحتى الى التقاتل... صحيح ان الخلاف بين عون وجعجع منذ اكثر من ثلاثة عقود ادى الى سقوط شهداء وانشقاق عائلات، ولكن هل استمرار الخلاف سيصلح هذا الامر؟ وهل "صب الزيت على النار" هو الطريق الصحيح لإيفاء حق من سقط ضحية هذا الخلاف؟ الم يتفق فرقاء آخرون بعد الحرب اللبنانية وجلسوا على طاولة واحدة، وتحالفوا في اكثر من انتخابات واستحقاقات؟ فما الذي يبرر عدم اتفاق "القوات" و"التيار" على طي حقبة اليمة ومريرة طبعت تاريخ المسيحيين في فترة طويلة بالسواد؟ ألا يعلم المنتقدون أنّ طي صفحة 30 عاماً من الخلاف يحتاج الى فترة موازية من اجل اعادة الامور الى مجاريها، انما على الاقل انطلقت مسيرة المصالحة بدل ان تكون مجرد مطلب وحلم غير واقعي؟

يأخذ البعض ايضا على الاتفاق انه مرتكز الى مصالح سياسية ليس الا، وانه غير صالح للبناء عليه، وان السياسة هي التي تحكمه. قد يكون هذا الكلام صحيحاً وصائباً، ولكن الا يجب اعطاء فرصة لمعرفة الوجهة التي يصل اليها الاتفاق؟ ثم ألم يكن الخلاف بين اللبنانيين دوماً على مصالح سياسية؟ فلماذا لا تكون المصالح السياسية سبباً للتلاقي، وهل يجب ان تقام حروب وخلافات وتغذية احقاد من اجل تحقيق مصالح سياسية لهذا الفريق او ذاك؟

ان استفاد جعجع او استفاد عون او كلاهما، فإن الاستفادة مطروحة في كل زمان ومكان، فلماذا لا يكون ذلك ضمن اطار اتفاق بدل ان يكون خلافياً ويؤدي الى مزيد من الانشقاق ببين العائلات وربما لا سمح الله الى مزيد من الدماء البريئة؟

مأخذ آخر يسجل على الاتفاق، انه يحاول اختصار المسيحيين ولا يمثلهم جميعاً وبالتالي فهو ناقص ولا يجب الاستمرار فيه. من المسلّم به ان احداً لا يمكنه اختصار طائفة او مذهب بعينه، ولا يمكن القول ان تقارب اي طرفين يختصر الجميع، ولكن في المقابل لا يمكن لاحد ان ينكر ان "التيار" و"القوات" فاعلان بقوة وبشكل كبير على الساحة المسيحية. ليس المطلوب ان يختصرا المسيحيين ومواقفهم، ولكن المطلوب ان يتم الاعتراف بهما كقوة مسيحية وازنة، وان يكون اتفاقهما او تقاربهما دافعاً ومحفزاً لبقية الاطراف للقيام بالمثل، اكان ذلك من اجل مصالح سياسية او غيرها، فالجميع ينادي بالاتفاق بين المسيحيين، لان من شأن ذلك ان يريح الطوائف الاخرى والمنطقة بشكل عام، وان يطمئن الغرب الى ان هذه الطائفة غير معرضة للاضطهاد في لبنان كما في باقي الدول المجاورة.

قد لا يكون الاتفاق بين "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" مثالياً، وهو لا يرضي الجميع وابناء الطائفة المسيحية بمجملهم بطبيعة الحال، وربما تشوبه الكثير من الشكوك، وقد يكون غير مثالي وقائم على المصالح، انما كل ذلك لا يبرر الهجمة الشرسة عليه، ولا ينفي عنه انه نجح في اخذ يد متخاصمين منذ عقود وبدأ اول خطوة في مسيرة الالف ميل نحو المصالحة والعودة الى الحياة الطبيعية.

لا ترفضوا التقارب المسيحي-المسيحي، ولا ترفضوا اي تقارب داخل اي طائفة او مذهب، او بين طائفة واخرى، لان نتائج مثل هذا الامر ينعكس ايجاباً على الوطن اولاً والمواطنين ثانياً، ويعيد الثقة بلبنان ولا شك انه سيكون احد الاسباب المشجعة على البقاء في البلد الام والامل بمستقبل قد يكون افضل من الذي حصل عليه الكثير من اللبنانيين الذين بلغوا من العمر اربعين عاماً وما فوق.

ما الذي يمكن ان يخسره احد من تقارب عون وجعجع او غيرهما؟ في اسوأ الاحوال قد لا يعيش هذا التفاهم، ولكنه يكون قد اعطى فرصة حقيقية للجميع للتوقف والتفكير ملياً في ما حصل وما يمكن ان تنتج عنه لغة التفاهم بدل الخصومة.