ليست طاولات الحوار التي تُعقد في عين التينة، سواء على مستوى الحوار الوطني أو بين حزب الله و"تيار المستقبل"، أكثر من نقاش في فراغ نتيجته معروفة سلفاً، لأنه يهدف إلى تهدئة الخواطر في غياب الندّية بحجم الحضور على الأرض اللبنانية أو في الجوار السوري، وقبول فريق "14 آذار" بمبدأ الحوار دون شروطه المسبقة بانسحاب المقاومة من سورية، كان أول مؤشر علني على نهاية مقولة "لبنان لا غالب ولا مغلوب"، وباتت حتمية الغلبة واضحة، نتيجة التجاذبات الفردية بين قوى "14 آذار" التي أدت إلى تمزّق التحالفات، إضافة إلى التطورات الإقليمية بدءاً من هزيمة الإرهاب في سورية، وصولاً إلى خيبة التحالفات في العراق واليمن، ولعل الدخول الروسي على خط الأزمة السورية كان الضربة المعنوية الأولى لحلفاء "المعارضات السورية"، واستقبال الحريري لمنسق عام "14 آذار" في الرياض بداية الأسبوع، ليس سوى لإعداد ترتيبات دفن "14 آذار".

وقد يكون الترشيح غير الرسمي - حتى تاريخه - للنائب سليمان فرنجية من قبَل الرئيس سعد الحريري، أول اعتراف رسمي من فريق الرهانات الإقليمية بالهزيمة في سورية، ومبايعة قطب من الفريق الخصم تمّ اختياره في لحظة يأس، علّه يضرب الخصم على قاعدة "عليّ وعلى أعدائي"، لكن ردود الفعل تتسارع بشكل دراماتيكي، ولم تنحصر الأمور بإقدام كل قطب في "14 آذار" على فتح معسكر "على حسابه"، بل بات الفلتان ضمن البيت الواحد؛ كما يحصل في "تيار المستقبل"، ودخل لبنان نهائياً مرحلة الغالب والمغلوب.

التصريح الناري للنائب "المتمرّد" خالد الضاهر، وقوله إن "ترشيح الرئيس سعد الحريري لرئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية ليس طرحاً سعودياً، وإن العماد عون لديه خيار وطني وواجه الوصاية السورية ليس بالكلام فقط بل بالسياسة"، هو مقارعة للحريري أولاً، ومقاربة للواقع الجديد ثانياً، لكنه مغالطة للواقع ثالثاً وأخيراً، لأن الرئيس الحريري ومعه معظم نوابه هم حمولة سعودية لن يتم إفراغها في خزان الانتخابات إلا بعد توافق سعودي - إيراني، أو بعد اعتراف السعودية بهزيمتها، وفي كلتا الحالتين لا انتخابات رئاسية في الوقت الحاضر، وسيستمر فولكلور جلسات الإنتخاب حتى إشعار آخر.

وعلى وقع التمرّد الحاصل الذي وصل إلى حدود نعي "14 آذار" لنفسها، ونشأة زواريب سياسية جديدة ضمن "تيار المستقبل"، فإن الحريري يواجه داخلياً معضلات ثلاث لن يستطيع الخروج منها:

أولاً: بات الحريري بعد مقامرته على فرنجية، عاجزاً عن مواجهة أمثال الوزير أشرف ريفي، الذين يقطفون بغيابه الشوارع السُّنية، خصوصاً في طرابلس بعد عكار، وأنصاره الذين مزّقوا صور والده الشهيد في صيدا قبيل إحياء ذكرى 14 شباط، احتجاجاً على عدم قبض رواتبهم من المؤسسات التابعة لآل الحريري، هم نموذج عن شعبية قائمة على المصلحة ولا تستطيع مواجهة شعبية عقائدية، خصوصاً ضمن جمهور المقاومة.

ثانياً: هزيمة "المعارضات السورية" أمام الجيش السوري وحلفائه في أكثر من موقع، واندحار "جبهة النصرة" أمام "داعش" في جرود عرسال، و"النصرة" هي المرادف لهذه المعارضات في قاموس "14 آذار"، مع ما لعرسال من رمزية في قاموس المزايدات المذهبية للرئيس الحريري و"تيار المستقبل".

ثالثاً: خسارة الحريري لحلفائه في الشوارع الانتخابية، ولبنان مقبل على انتخابات بلدية واختيارية ستكشف الأحجام الحقيقية للتيارات السياسية والحزبية، وحتى الدينية، في كل المناطق، والتي لن تكون نتائجها إيجابية على الحريري، إن لم نقل مدمِّرة.

أمام هذا الواقع، فإن هدف التمديد للمجلس النيابي عامي 2013 و2014 كان لتحاشي وقوع فتنة سُنية - شيعية، نتيجة ضمور حصة الحريري في الشارع السُّني، لكن إقرار مجلس الوزراء مخصصات مالية لإنجاز الاستحقاق البلدي وفرعية جزين، هو أعظم استفتاء على الأحجام، وما يتهرب منه الحريري اليوم بقرار سعودي، سيجد نفسه خاضعاً له بعد صدور نتائج انتخابات بلدية، سيخرج من رحمها رئيس الجمهورية العتيد بعد استقرار الوضع السوري جزئياً، ورحم الله الرئيس صائب سلام الذي كان يتبنى مقولة "لبنان لا غالب ولا مغلوب"، لأنها كانت مسلسلاً من التكاذب المتبادَل، وطارت اللاءات من هذه المقولة في عهد نجله تمام وإلى أجل غير مسمى.