لا تبدو المنطقة هذه الأيام في أحسن أحوالها. العلاقات بين "معسكرَيها" متوترة وأكثر، المبادرات الحوارية متعثّرة، والمساعي التسووية شبه مجمّدة. وعلى الرغم من حديث الجميع الدائم عن "حلول سياسية" لا مناص منها، فإنّ المؤشرات العملية على الأرض، وآخرها ترحيل مفاوضات جنيف وإعلان السعودية رغبتها في إرسال قوات برية إلى سوريا، وبمؤازرةٍ تركيّة، لا توحي سوى بـ"عسكرة الأزمة" أكثر فأكثر.

إزاء كلّ ذلك، يقف لبنان كالعادة متفرّجاً، ينتظر "حصّته" و"دوره" وسط كلّ هذه "الفوضى". هو يدرك أنّ بدعة "النأي بالنفس" لن تكفيه لتجنّب الانعكاسات الحتمية عليه، خصوصًا في حال أضحى التدخّل السعودي التركي في المنطقة من البوابة السورية واقعًا، ويدرك أكثر أنّ واقعه المشتّت والمشلول قد يشكّل "البيئة الخصبة" لانزلاقٍ لن يكون في صالح أحدٍ بطبيعة الحال...

مخاوف مشروعة

على الرغم من انشغال اللبنانيين بالكثير من الملفات السياسية والاجتماعية التي تتنافس في حجم "الخطورة"، من الفراغ الرئاسي المتمادي، إلى الوضع الاقتصادي المتردّي، مرورًا بالواقع الاجتماعي المتدحرج، فإنّ الهاجس الأمني عاد إلى واجهة الاهتمام خلال الأيام القليلة الماضية، مع الإعلان السعودي عن الرغبة بارسال قوات برية إلى سوريا، تحت عنوان محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، والرد الإيراني السريع على هذه النيات، بعد أن كان وزير الخارجية السوري ​وليد المعلم​ حذّر من أن مثل هذه القوات ستعتبر عدوة.

ولعلّ المخاوف على هذا الصعيد، والتي بدأت أوساط سياسية مطّلعة "تجاهر" بها، تبدو أكثر من مشروعة، ليس فقط لأنّ لبنان ليس جزيرة معزولة عن محيطها فحسب، كما يعلم القاصي والداني، بل لأنّ البلاد أصبحت عمليًا جزءاً من ساحات الصراع السعودي الإيراني في الشرق الأوسط، شاء من شاء وأبى من أبى، وبالتالي فإنّ أي تصعيد في المواجهة بين الجانبين سينعكس عليه بشكل أو بآخر، فكيف الحري إذا كان هذا التصعيد يتمركز في ساحةٍ يُعتبَر "حزب الله" شريكاً أساسيًا فيها.

عاصفة حزمٍ ثانية؟!

عند الحديث عن انعكاساتٍ مفترضة على لبنان للتدخل السعودي المحتمل في سوريا، تعود الذاكرة فورًا إلى لحظة انطلاق "​عاصفة الحزم​" السعوديّة في اليمن، وما رافقها من توتراتٍ داخلية غير مسبوقة، أخذت للأسف طابعاً طائفيًا ومذهبيًا، وتُرجِمت سياسيًا وأمنياً عبر أكثر من وسيلة، وذهبت لحدّ تفجير العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" بشكلٍ لم يستطع الجانبان الخروج منه "معافين" حتى يومنا هذا.

وإذا كان العنصر المذهبي سيشكّل مرّة أخرى طبق "التوتير" الدّسِم في المنطقة عمومًا وفي لبنان خصوصًا في حال انزلاق الأمور أكثر من ذلك، فإنّ الأوساط تعرب عن اعتقادها بأنّ تداعيات التدخل السعودي التركي في سوريا لن تكون شبيهة بتلك التي حصلت مع بداية الحرب اليمنية، بل إنّها ستكون سلبيّة أكثر، نظراً إلى أن الأحداث تقع في دولة مجاورة، شاركت أغلب القوى اللبنانية في حربها بطريقة أو بأخرى، والنتائج على مختلف المستويات كانت كبيرة، من أزمة اللاجئين إلى الخسائر الإقتصادية وصولاً إلى الإنعكسات الأمنية التي ترجمت بأكثر من وسيلة.

وفي حين لا تزال تراهن هذه الأوساط على أن الأمور لن تذهب إلى المزيد من التصعيد، أي أن الإعلانات السعودية لن تخرج عن إطار الحملات السياسية المعروفة الأهداف بعد الإنتكاسات التي تعرضت لها قوى المعارضة السورية على أكثر من جبهة، ترى أن من الواجب أن تبقى كل الإحتمالات في الحسبان، لا سيما أن أحداً لم يكن في الأصل يتوقع حصول العديد من السيناريوهات التي باتت ركناً أساسياً من معادلة الشرق الأوسط الجديد، خصوصاً لناحية الدخول الروسي المباشر على خط الحرب، المتزامن مع إنهيار العلاقات بين أنقرة وموسكو على نحو دراماتيكي.

ماذا عن الموقف الرسمي؟

وإذا كانت العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" مهدَّدة بأن تخرج من دائرة السيطرة في حال حصول أيّ تطور غير محسوب على الخط، فإنّ ما هو أخطر من ذلك، بحسب الأوساط نفسها، هو أنّ الإنقسام لن يقتصر على الموقف السياسي الذي سيتخذه كل فريق، إنطلاقاً من الموقع الذي يتمترس به، وهو أمرٌ طبيعي وبديهي ومنطقي، بل سيطال حتى الموقف اللبناني الرسمي، في ظل الصراع الدائم بين موقعي وزارة الخارجية والمغتربين ورئاسة الحكومة، والذي تجلى في الفترة الأخيرة في الموقف من توتر العلاقات السعودية الإيرانية.

إزاء ذلك، تُطرح الكثير من الأسئلة والهواجس، إذ هل يمكن أن ينأى لبنان بنفسه عن هذه التطورات؟ وكيف من الممكن أن يترجم ذلك في ظل التفسيرات المتعددة لهذه السياسة؟ وهل ينفع النأي بالنفس أصلاً في تجنيب البلد التداعيات التي قد تكون كارثية؟ وماذا عن اللبنانيين في الدول الخليجية الذين باتوا رهينة تُمارَس عبرها الضغوط؟

وفقاً للأوساط نفسها، فإنّ هذه الهواجس مطروحة ومشروعة، لكنّ أحداً لا يستطيع أن يقدم الجواب الشافي عنها، لا بل تضاف إليها أخرى متعلقة بالفراغ الرئاسي، الذي ترى الأوساط أنه مستمر لفترة طويلة في ظلّ الأوضاع الراهنة، بالرغم من تعدّد المبادرات المطروحة، وتضيف: "نظرية الحياد الإيجابي أو السلبي لم تعد تنفع، فالنيران تقترب كل يوم أكثر من المنزل، لكن مع الأسف لبنان لا يملك إمكانية إخمادها".

هل من يتّعظ؟

في الختام، شيءٌ واحدٌ يبدو أكيدًا، وهو أنّ لبنان ليس مستعدًا لمواجهة أيّ تصعيدٍ محتملٍ في المنطقة، وهو الذي تبقى مؤسساته مشلولة، يظلّلها شغورٌ رئاسي عجزت عن ملئه كلّ المبادرات والتسويات.

وإذا كان من عِبرةٍ يفترض أخذها من كلّ ما سبق، فهي أنّ "الحصانة الوطنية" التي تؤمّنها وحدة المكوّنات اللبنانية، التي تبقى لتاريخه أقرب لـ"المعجزة"، تكاد تكون "السلاح" الوحيد الذي يمكن أن ينقذ جميع اللبنانيين، فهل من يتّعظ؟