تزاحمت مبادرتان أساسيتان في الملف الرئاسي اللبناني في الشهرين الماضيين كاسرة الجمود الذي كان قد حلّ بالقضية، فالرئاسة اللبنانية الشاغرة منذ نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان لا تزال تشكل مفصلاً في دورة الحياة السياسية التي تزداد تعقيداً.

السباق جاء على صورة استثمار مبادرة الحريري وبعدها مبادرة جعجع في ترشيح الأول لفرنجية والثاني لعون، ضمن محاولة كاد يقطفها لبنان لإطلاق إشارة بدء العملية السياسية في المنطقة، فانتخاب الرئيس اللبناني في هذا التوقيت فيه ما يعني دعم الدول الإقليمية لأحد المرشحين المطروحين وهنا بدا أنّ فرنجية مرغوب به سعودياً، وعون مرفوض حتى الساعة.

الرفض السعودي لعون والذي يأتي بصيغة عدم تبنّي ترشيحه داخلياً من قبل تيار المستقبل، ليس إلا تأكيداً آخر على بقاء هذا الرفض الذي سبق وامتحن في مبادرة الحريري الأولى حين حصل تقارب بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل قبل انتهاء ولاية سليمان الرئاسية، والذي أعقب تباعداً بين الفريقين لفترة غير قليلة نسبياً.

كتلة المستقبل التي اجتمعت أمس خرجت ببيان يعتبر حزب الله بشكل أساسي أبرز معطلي الاستحقاق مجدّداً، معتبرة أنّ قيام الحزب ومعه التيار الوطني الحرّ بإفشال انعقاد الجلسة الخامسة والثلاثين لمجلس النواب برأيها، شكّل محاولة جديدة مكشوفة ومرفوضة للتعطيل الذي يقومان به من أجل السيطرة على إرادة اللبنانيين المصمّمين على انتخاب رئيس جديد وفق ما ينصّ عليه نظامهم الديمقراطي، مضيفة أنها ترفض بقوة وحزم المحاولات التي يقوم بها الحزب والتيار لفرض ممارسات غير دستورية جديدة يكون بنتيجتها قيام نظام سياسي شمولي، على صورة ما تبقى من الأنظمة الشمولية القائمة في العالم، لأنه نظام يلغي إرادة الشعب اللبناني..

يتكشّف هنا تعقيد المشهد في حين يظهر جلياً عدم تلقي تيار المستقبل رسالة حزب الله الداعية إلى حصد أكبر قدر ممكن من التوافق على اسم العماد ميشال عون، مرشح الحزب الثابت، بالتالي فإنّ نيات السيّد نصرالله الوفاقية وعدم لجوئه إلى لعبة الأرقام وتجميع النقاط المطلوبة والسعي للضغط على حلفائه للتصويت لعون كي لا يتمّ تخطي المكوّن السني الرئيسي في البلاد والمجلس النيابي تمّ إقصاؤها تماماً. المشهد المصغّر في لبنان يوضح أكثر مشهد التعقيد الذي يشوب العلاقة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية على خلفية ملفات كبرى كسورية واليمن، لكن هذا لم يمنع طهران من إرسال رسائل إيجابية للجانب السعودي في نيات جدّية للتواصل، فقدّمت إيران اعتذاراً عن حادثة القنصلية السعودية ولم تسع لتأجيج الأوضاع في المنطقة الشرقية عقب إعدام الشيخ نمر النمر، وكلّ هذا لم يتمّ تلقيه إيجاباً من الجانب السعودي.

قرار التقدّم السلبي والتعطيل السعودي ينسحب أيضاً على قرار انسحاب المعارضة السورية المدعومة سعودياً من جنيف، وفشل المتحاورين اليمنيين في التوصل إلى حلّ في جولة التفاوض الأخيرة مع دخول العام الأول من الحرب، وبالتالي لم يتضح تقدّم إيجابي سعودي في الملفات الثلاثة الرئيسية السوري واليمني واللبناني.

يبدو أنّ قرار التعطيل موقف سعودي يسبق الأيام التي تفصل زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا منتصف شهر آذار المقبل، كما صدر عن الكرملين، لبحث الأوضاع في المنطقة والعلاقات بين البلدين. وحتى موعد الزيارة تبدو الرياض وفريقها في الميادين الثلاثة تتجه نحو تقطيع الوقت لحصد أكبر قدر ممكن من نتائج مرجوّة تفضي إليها المناورات. وهنا تشير التقديرات الأمنية بالملف السوري تحديداً إلى حتمية وقوع تطورات رئيسية في جبهة الشمال إذا تقدّم المشهد الميداني بالوتيرة نفسها وصبّ في خانة تقدّم الجيش السوري وحلفائه مع الإسناد الجوي الروسي الذي سرّع الحسم وخلق قلقاً كبيراً لدى الدول التي تعتبر حرب الشمال السوري بالنسبة لها «نصف الحرب» أيّ ما تبقى منها.

تراجع القدرة السعودية في أي عملية سياسية مقبلة يعني تأثر الملفات الثلاثة بشكل مباشر، وهنا فإنّ هذا التراجع الذي ساهمت فيه روسيا بشكل أساسي في سورية – حيث لا زالت تعتبر أمّ المعارك – يمكن لروسيا أيضاً أن تساهم في إعادة توازنه بما يصبّ لمصلحة الرياض سياسياً التي يمكنها أن تستثمر هنا الخلاف التركي الروسي بشكل كبير.

فالمشهد الذي يؤكد أرضية جيدة بين واشنطن وموسكو في الشأن السوري، خصوصاً ما كشفه ملفّ الأكراد مؤخراً، يؤكد أنّ الحسم السياسي بات تحت السيطرة الروسية، وأنّ التقارب من الموقف الروسي يعزز نقاط القوة.

تدرك السعودية هذه القراءة جيداً، وعلى هذا الأساس كلّ شيء سيبقى عالقاً حتى زيارة الملك السعودي وفريقه إلى موسكو، حيث من المفترض أن يعقد لقاءات أساسية تحسم المشهد، وهنا فإنّ أيّ تطوّر سيتأثر فيه الملف الرئاسي اللبناني بشكل مباشر بشكل يجعل تراجع النفوذ السعودي ترجمة وتبريراً لتقدّم حظوظ ومبادرات أخرى، فهل ترتفع الأسهم لمرشح وسطي في البلاد على مرشح من بين الزعيمين المارونيين المطروحين، لأنّ هذا الإخفاق السعودي لن يترجمه حزب الله المنطلق أصلاً من صيغة وفاقية في البلاد بتحدٍّ قد يُحسب استفزازياً، طالما أنّ تيار المستقبل لن يتجه بطبيعة الحال في لحظة إخفاق استراتيجي، وعدم توافق روسي سعودي، وبدون الاستحصال على المباركة السعودية وظهور انفراجات في الملفات الأساسية إقليمياً، إلى ترشيح العماد عون الذي سيعتبر هو الآخر نوعاً جديداً من الإخفاق السعودي يأتي من الساحة اللبنانية؟