الحروب في العالم ليست عسكريّة وأمنيّة فحسب، بل يُمكن أن تكون إقتصادية–ماليّة أيضًا، ولعلّ ما يشهده العالم حاليًا هو أحد أكثر الحروب ضراوة من الناحية الإقتصادية. صحيح أنّ الخلفيّات السياسيّة والدينيّة والعرقيّة والعقائديّة لكل من المواجهات التي دارت بين ​روسيا​ و​أوكرانيا​ في العام 2014، والحروب المفتوحة في المنطقة وفي طليعتها في سوريا منذ نحو خمس سنوات حتى اليوم، موجودة بشكل أكيد، لكنّ الأصح أنّ لهذه المواجهات والحروب أسباباً إستراتيجيّة إقتصاديّة مُرتبطة بمعارك الغاز و​النفط​. كيف ذلك؟

بالنسبة إلى تركيا المتورّطة في حرب سوريا، وبعيدًا عن خلفيّات الصراع المُزمن على الزعامة الإقليميّة، وعن المشاكل القديمة-الجديدة مع نظام حزب "البعث"، وبعيدًا عن المشاكل مع الأكراد الأتراك والسوريّين وغيرهم، فهي كانت قد وضعت الخُطط لإقامة خط أنابيب يندرج ضمن خطّة شاملة تقضي بتجميع غاز المنطقة في تركيا، قبل تصديره إلى أوروبا عن طريق "الترانزيت". ومن بين الخطوط لنقل الغاز الطبيعي، مسار يمتد من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا وُصولاً إلى أوروبا، وتحديدًا عبر الحدود التركيّة–البلغارية إلى النمسا. وكانت تركيا قد وضعت الخُطط أيضًا لإنجاح مشروع أنبوب الغاز العربي والذي يبلغ طوله نحو 1,200 كيلومتر، والذي يرمي إلى ربط شبكة أنابيب الغاز المُمتدة من مصر مرورًا بالأردن وسوريا بشبكة الأنابيب التركيّة، على أن يتم ربط العراق بالشبكة في مرحلة لاحقة. لكن كل هذه الخطط مُعرّضة للإنهيار حاليًا بفعل التطوّرات في سوريا.

وبالنسبة إلى قطر التي تملك مخزونًا إحتياطيًا ضخمًا هو الأكبر على مُستوى العالم، والتي تبلغ حُصتها في الأسواق نحو 12 % من إجمالي مبيعات الغاز الطبيعي، فهي كانت حاولت من جهتها قبل إندلاع الحرب في سوريا، تمرير خط غاز يصلها بتركيا وتحديدًا بأنابيب "نابوكو" عبر عدد من الدول العربيّة مرورًا بالأراضي السورية، لكن سوريا رفضت هذا الأمر وإستعاضت عنه بأنبوب غاز يمرّ من إيران إلى العراق ثم سوريا، ليصل غاز هذه الدول إضافة إلى غاز بحر قزوين، بأنبوب غاز "بروم" الروسي، خاصة وأنّ موسكو وقّعت مع دمشق إتفاقات عدّة بشأن الغاز. لذلك أطلقت شركة "آفاق" للغاز في قطر، خطة طموحة تقضي بشراء أسطول ضخم من ناقلات النفط لنقل الغاز من قطر إلى مختلف دول العالم، وسعت بمساعدة أميركيّة إلى سحب عقود الغاز الأوروبيّة من يد موسكو.

وفي ما خصّ روسيا الإتحاديّة التي تُعتبر المُصدّر الأوّل للغاز في العالم حيث تُسيطر على أكثر من 60 % من إجمالي عمليّات بيع الغاز العالمي، والتي توزّع نحو 420 مليار طنّ من الغاز السائل سنويًا، فهي تستخدم شبكة من الأنابيب تمتد من روسيا إلى أوكرانيا وبيلاروسيا وإلى مجمل دول أوروبا الشرقيّة سابقًا، وصولاً إلى ألمانيا وبلجيكا. وتستخدم شركة "غاز بروم" الروسيّة العملاقة خطوط أنابيب عدّة، أحدها يمرّ تحت بحر البلطيق، ويربط بشكل مباشر بين إحتياطي سيبيريا الضخم من الغاز الطبيعي وألمانيا. وكانت موسكو قد وقّعت مع أنقره قبل الحرب السوريّة أيضًا، إتفاقًا يقضي بإنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز إلى أوروبا من خلال عبور المياه الإقليميّة لتركيا تحت البحر الأسود، بدلاً من عبوره المياه الإقليميّة لأوكرانيا التي إختلفت مع روسيا بشأن المكاسب المالية لكلّ منهما، قبل أن ينفجر الوضع أمنيًا بينهما منذ نحو سنتين.

والحرب على تصدير النفط لا تختلف كثيرًا عن الحرب على تصدير الغاز، وسعر برميل النفط الخام الحالي تأثّر كثيرًا بهذا الصراع بين الدول المُنتجة والمُصدّرة للنفط، ما أدّى إلى تراجع الأسعار بنسبة 75 % في فترة زمنيّة قياسية، وتحديدًا من نحو 108 دولارات للبرميل الواحد في حزيران 2014 إلى 27 دولاراً للبرميل اليوم. إشارة إلى أنّ كلفة إستخراج وتصدير برميل النفط تختلف كثيرًا بين دولة وأخرى، بسبب الطبيعة الجغرافيّة وعمق الآبار، إلخ...(1). وفي هذا السياق، تتراوح كلفة إستخراج وتصدير برميل النفط الخام ما بين 8,5 دولارات أميركية في الكويت، و52,5 دولارات في بريطانيا(2). وبالتالي، إنّ أرباح مختلف الدول النفطيّة تقلصّت بشكل كبير، وبعضها بدأ يخسر من عمليّات الإستخراج والتصدير. والغريب أنّه بدلاً من تطبيق مُعادلة "العرض والطلب" بشكل سليم، أي بدلاً من تقليل العروض في الأسواق لإعادة رفع الأسعار، يتمّ إغراق الأسواق العالميّة بفائض كبير، في إطار الصراع القائم عالميًا. وهذا الأمر إنعكس سلبًا على إقتصاد العديد من الدول، وليس على الدول الخليجيّة فحسب، وزاد طين المشاكل الإقتصادية العالميّة بلّة. إشارة إلى أنّ الصين سجّلت أخيرًا أضعف نسبة نموّ على مدى ربع قرن كامل، ومصرفها المركزي يتدخّل يوميًا لمنع إنهيار العملة، بينما يُواجه الإقتصاد الروسي ضُغوطًا هائلة في ظلّ تكاثر المؤشّرات الإقتصادية والمالية السلبيّة، في حين تقف شركات أميركيّة ومصارف أوروبيّة عدّة على عتبة الإفلاس.

في الختام، ليس سرًّا أنّ هيئة المسح الجيولوجي الأميركيّة USGS كانت إكتشفت قبل سنوات عدّة أنّ الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، يحتوي على مخزون هائل من الغاز يُقدّر بنحو 700 مليار متر مكعّب، إضافة إلى كمّيات ضخمة من النفط. وبالتالي ليس من المُستغرب أن تدخل كل من قطر والسعوديّة وتركيا وإيران وروسيا بشكل مباشر أو غير مباشر على خط الصراع العسكري في سوريا. فمن بين الأسباب الأساسيّة للحرب السورية، وإضافة طبعًا إلى بُعدها السياسي والمذهبي والإقليمي، انّ من يُسيطر على سوريا سيتحكّم بشريان أساسي لعمليّات تصدير الغاز الذي يتحوّل تصاعديًا إلى مصدر الطاقة الأساسي للقرن الواحد والعشرين. فمن سيركع أوّلاً بفعل حرب الغاز والنفط الإقليميّة والعالميّة الشرسة؟!

(1)مُعدّل الكلفة يأخذ في الإعتبار تكاليف المُنشآت والمعدّات المُستخدمة في عمليّات الإستخراج والتصدير، ورواتب العمّال، إلخ.

(2)تبلغ كلفة إستخراج وتصدير برميل النفط الخام 8,5 دولارات أميركية في الكويت، و9,9 في السعودية، و10,7 في العراق، و12,6 في إيران، و17،2 في روسيا، و23,5 في فنزويلا، و27,8 في كازاخستان، و29,9 في الصين، و36,2 في أميركا، و41 في كندا، و52,5 دولارات في بريطانيا.