"موقف تيار المستقبل يُعبَّر عنه في بيان الكتلة وحده"... ما أحبّ هذه العبارة الى قلوب المستقبليّين الذين حفظوها عن ظهر قلب حتى باتت بمثابة خشبة خلاصهم في أوقات الضيق، وتحديدًا عندما يخرج وزيرٌ أو نائبٌ ليحلّق خارج سربهم العام، فكيف إذا كان التحليق هذه المرة صافعًا في التوقيت عشية “الذكرى”؟

ليست سابقة في تيار المستقبل أن يخرج أحد أبنائه متنصّلاً من الموقف العام أو في أحسن الأحوال مستبقًا تغريدة “زعيمه” أو اجتماع كتلته. لم يكن خالد الضاهر هذه المرّة وهو المُعلّقة عضويتُه والذاهب بعيدًا في دعم ترشيح العماد ميشال عون على حساب سليمان فرنجيّة المزكّى مستقبليًا، بل وزير العدل أشرف ريفي.

من أجله استمات...

هو نفسُه الوزير الذي من أجله “استمات” الرئيس سعد الحريري برفع سقوفه قبيل التأليف ورفض التخلّي عن ورقة المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي رغم اعتراض فريق 8 آذار الحاد يومذاك وتحديدًا حزب الله. فرضه رئيس تيار المستقبل “جوكر” قويًا في وجه خصومه لا بل منحه إحدى أكثر الحقائب حساسيّة: وزارة العدل، فغدا ريفي “تلقائيًا” أحد صقور التيار لا سيّما بعدما أفلح في زرع بذور حيثيّة محصّنة في منطقته الشمالية وراح يحصدها في كلّ الأوساط الطرابلسيّة التي تهتف باسمه وتعلّق صوره في المداخل والأزقة، وتقصده الفاعليات سواء كانت مطلوبة للعدالة أم مناديةً بالسلام في طرابلس لتبدي تأييدها له وتفتح صدرها أمامه معلنةً ولاءها بالروح. مذاك الوقت وتيار المستقبل يخشى أن يتحوّل ريفي من وزيرٍ قويٍّ منضبطٍ في صفوف التيار الأزرق الى حالةٍ خاصّة تبني شعبيّتها بصمتٍ وفرديّةٍ على حساب شعبيّة الجهة التي ينتمي اليها أصلاً سياسيًا وحكوميًا.

تياران...

لم تكن حالة ريفي تلك كافيةً لتدفع “المستقبل” الخائف رئيسه على اعتداله وعلى شارعه المهجور والمستعدّ لكل الاحتمالات في ظلّ غياب ضابط الإيقاع، الى الحدّ من توسُّع طموحات الرجل أملاً في أن ينتهي المطاف به عنصرًا قويًا داخل صفوف التيار وإيمانًا بأنه قد يتمكّن من سحب الشارع السني الطرابلسي من الدوامات السلفيّة صوبه وبالتالي صوب بيت الوسط بشكل عام. لم تكن الأمور تسير حسبما كانت الماكينات الزرقاء تشتهي. فالفتورات بين الصقر الأول أشرف ريفي والصقر الثاني نهاد المشنوق راحت تطّرد هي الأخرى مع الكثير من الضوابط العلنيّة، الى أن بلغت الأمور بأهل السياسة والإعلام التحدّث عن تيارين داخل التيار الواحد أحدهما يمثله الحريري والمشنوق والثاني يجسده السنيورة وريفي. لم يكن “المستقبل” يهضم هذا الكلام حتمًا لا بل واظب أبناؤه في اجتماعاتهم الأسبوعية على تأكيد التماسك في وجه كلّ محاولات الشقاق، والتشديد على أن بيان الكتلة الأسبوعي يعكس وجهة نظر المستقبل الواحدة التي ينشدها الحريري بالتشاور لا بالإكراه، مع التعريج على “ديمقراطية” تنوّع الأفكار والرؤى داخل التيار شأنه شأن أي فريق سياسي آخر.

الشعرة: ترشيح فرنجية

بدت الأمور “هديانة” نوعًا ما الى أن خرج الحريري بمفاجأته الرئاسية التي يبدو أنه لم يستشر أحدًا بها. غضب كثيرون من المستقبليين الرافضين ورقة سليمان فرنجية حليف الرئيس بشار الأسد، واعتبروها في قراراتهم طعنةً صريحة للشهيد الرئيس رفيق الحريري لا بل للقضيّة برمّتها. بقيت تلك الأصوات المعترضة مطموسة الى أن قرّر الوزير ريفي التفوّه باسمها، فخرج ليعلن رفضه تسوية رئيسه. سارع الأخير الى إصماته ومنعه من التداول في الموضوع بلا مسوّغاتٍ بما أن القرار اتُخذ في دوائر أكبر من يعترض عليها وزير أيًا يكن. التزم وزير العدل في حينها “تعليمات” قيادته العليا، ولكن ما لم يكن يتوقّعه الحريري “المَحقون” من تصرّفات الوزير الطرابلسي أن يكون ملفّ ميشال سماحة سببًا جديدًا لخلافٍ جديد لا ترحمه الأضواء.

خيرُ الحريصين

فعل ريفي ما أراد. انسحب من جلسة مجلس الوزراء الأخيرة وعقد العزم على مقاطعة الحكومة وجلساتها ما لم يُحَل ملف سماحة الى المجلس العدلي. ربّما الحريري مقتنعٌ بأحقيّة مطلب وزيره وهو الذي كان من أوائل المعترضين على إخلاء سبيل “مجرم أراد أن يقتل أبناء شعبه لا بل متهم بالمساهمة بشكل أو بآخر في اغتيال الشهيد وسام الحسن”. لم تكن تلك القناعة كافيةً لتسويغ سكوت الحريري عن موقف ريفي الذي حمل الكثير من “التحامل والمزايدة” على رئيس التيار على ما تؤكد مصادر مستقبلية، غامزةً من باب أن الرئيس الحريري هو خير الحريصين على القضيّة وعلى دماء الشهداء وبالتالي لا يجوز إيصال رسائل اليه بهذه الطريقة، لذا كان لا بدّ من اتخاذه هذا الموقف القاسي”.

جور التوقيت

هي تغريدة واحدة كانت كفيلة بفضح الكثير من الأمور بالنسبة الى مواكبي مسار “المستقبل” منذ رحيل الحريري عن لبنان حتى اليوم. لم يعد التيار يشبه نفسه كثيرًا وإن بقيت معظم وجوهه وأتته أخرى جديدة ربما أخطأ الحريري في تبنيها، او ربما أخطأ هو في بقائه بعيدًا منها ومنحها “الحريّة المتفلتة” على طبقٍ من ألماس. يحاول بيت الوسط لململتها قدر المستطاع وإن كان ما حصل قد حصل. فالشارع لا يرحم وكذا الخصوم الشمّاتون وما بقي من 14 آذار. لم يكن التوقيت في صالح الرجلين، فذكرى 14 شباط على مسافة زمنية لا تتجاوز الساعات (غدًا) والحريري لديه ما يقوله في شؤون جمّة ولا ينقصه أن يمعمع خلافٌ داخل البيت الواحد خطابه المُنتظَر الذي تترنّح فيه فرضية إعلانه ترشيح فرنجية رسميًا من عدمه لا سيّما أن رمزية المناسبة قد لا تسمح له بفعلها وهو الذي يتّهم حلفاء الرجل في الداخل والجوار باغتيال والده.

خطوة من اثنتين

حساسًا سيكون الموقف بالنسبة الى الحريري الذي يبدو أنه اتخذ قرارًا بتهدئة الأمور مع شركائه في الداخل، وخير دليل على ذلك حرصه على استمرار الحوار مع حزب الله، وعلى تفعيل العمل الحكومي بغض النظر عن الملفات الخلافية، وعدم السماح للفتنة بالتسلل الى جسم الوطن الواهن. كان عليه أن يختار خطوةً من اثنتين: إما أن يترك ريفي لشأنه ويغض الطرف عن موقفه علمًا أن من غير المنطقي أن يعتكف وزير ضمن كتلة ويواظب زملاؤه على الحضور طالما أن ليس هناك قرارٌ “أعلى” بالاعتكاف، وإما أن يردّ عليه بالطريقة التي فعل. آثر الحريري الخيار الثاني بعدما وجد أن عواقبه أقلّ ضغطًا ووطأةً عليه عشية ذكرًى ينتظر فيها محبّوه أن يطلّ في دور الجامع المُنعِش لا المستسلم المنتحِب على تيارٍ تتشقّق أرضيته... وقضيّته.