بين الإعلان عن مكتبة دبي وإعلان غوغل عن محو التراث البشري يومان. فكرتان أو ظاهرتان عالميتان تلتقيان في ذكاء معاندة الزمان بناءً وتحذيراً لتراث البشرية. تستحقان التوقف عندهما، بكثيرٍ من العناية والتأمّل. تحمل الفكرتان إستشرافاً يمكن أن أسمّيه "مستقبل الذاكرة البشرية بين الموت والحياة". وتشاء المفارقات أو الأحلام الحضارية أن يطلق الفكرتان وفي وقتٍ واحد عقلان عربي وأجنبي.ولربّما من قبيل الصدف التي تغيّر أحياناً كثيرة مجرى التاريخ، أوتفتح أبواباً للمجادلة والكتابة والتيقّظ وتغيير وجهات الثقافة هي التي دفعتني وأنا أتابع إعلان دبي فأغرّد على التويتر:

الحنين العظيم الى أمجاد مكتبة الإسكندرية.

جاء من يمحو نكبة المغول في غزوهم لثقافة العرب.

أحرقوا مكتباتنا ورموها في المحيطات وصارت مياهها سوداء.

الفكرة الأولى أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بتأسيس المكتبة الأكبر عربياً وباستثمار يبلغ مليار درهم، وبمساحة تصل إلى مليون قدم مربعة،و4.5 ملايين كتاب، و 42 مليون مستفيد. هي ليست فكرة لأنّ أعمال البناء قد بوشر بها ، وسيتم افتتاحها العام المقبل لتضمّ ثماني مكتبات متخصصة و1.5 كتاب مطبوع، ومليوني كتاب إلكتروني، ومليون كتاب سمعي. والمرتقب أنّها ستكون المكتبة ذات الصفة العالميّة ببنائها الضخم على خور دبي وبتطلّع حاكمها لأن تشغل المحطة الفكرية والثقافية المعاصرة التي ستجذب الفعاليات الثقافية والمعرفية سنوياً، ومعرضاً دائماً للفنون ومقصداً لأهم المؤسسات المتخصصة بدعم المحتوى العربي. جاء الإعلان الرسمي عن الفكرة مدعّماً بطموح حاكم دبي بهدف "ردم الهوّة المعرفية الحضارية التي تستدعي مشاريع بهذا الحجم لدفع التحدّي الثقافي التاريخي والتركيز على العقل محوراً للتنمية، حيث يحتلّ الكتاب موقع الريادة في تجديد هذا العقل... إذ لا يمكن لأمة أن تنمو بدون عقل متجدّد وروح معرفية حية، خصوصاً وأنّنا أصحاب حضارة ورسالة وثقافة، ولابد من إحياء روح المعرفة عبر مبادرات تتجاوز الحدود. نريدها مكتبة حية تصل إليك قبل أن تصل إليها وتزورك قبل أن تزورها، وتشجعك على القراءة منذ الصغر، وتدعمك عالماً وباحثاً ومتخصصاً عند الكبر". من بشارة مكتبة أبي راشد للمبدعين طباعة وتوزيع 10 ملايين كتاب في العالم العربي خلال الأعوام المقبلة، واحتضان جوائز للّغة العربية بحدود 2.4 مليون درهم، وإطلاق برنامج لدعم المحتوى العربي بترجمة 25 ألف عنوان، إضافة إلى أنها ستكون مركزاً داعماً لتحدي القراءة عربياً، يستقبل 2.5 مليون طالب من 20 ألف مدرسة في العالم العربي، يعملون على قراءة 125 مليون كتاب سنوياً، وتضم المكتبة مركزاً خاصاً لترميم المخطوطات التاريخية، ومعارض أدبية وفنية طوال العام، لتكون نواة للإبداع والمعرفة، وملتقى للمهتمين بالثقافة والعلوم،ومتحفاً للتراث وتاريخ الحضارة الإنسانية وجعل الإمارات عاصمة ثقافية ومعرفية.وعلى المستوى الهندسي تم اختيار شكل الكتاب المفتوح ليكون الهيكل الأساسي للمكتبة، وهو من أعقد التصميمات التي يمكن بناؤها.

الفكرة الثانية جاءت في اليوم التالي للإعلان عن الفكرة الأولى، أطلقها لاري بايج، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة غوغل، الذي طوّع الثقافة والكتابة والحضارة والأبحاث وذاكرة البشرية الى نقرة الإصبع أو نبرة الصوت ليغدو الأكثر نفوذا في تاريخ الفكر البشري المعاصر. والمعروف أنّ لاري بايج مع سيرجي برين وهما طالبان بجامعة ستانفورد، أسّسا غوغل في عام 1998 بهدف ترتيب معلومات الكرة الأرضية المفتون قاطنوها بتقنيات العولمة، وجعله قمة الفائدة العالمية والنبع المعرفي الذي لا ينضب وهو باقٍ بتصرّف الجميع. وقد يكون، نعم قد يكون، لفكرة غوغل شريان تاريخي يوصل غوغل بالرحم القديم الذي يمتدّ الى عقل الخوارزمي الذي بات يذكره البحّاثة وأساتذة الجامعات لماماً في الوطن العربي، بكونه ساعد على ترسيخ فعاليات البحث ورفع الشركة العالمية وحقول الإنترنت الهائلة على مساحة الكرة والعيون البشرية بعد تربّعه فوق قمم مواقع البحث ومحركاته المتنوعة والمتجددة الأجيال.

أمّا مختصر فكرة غوغل ، فقائمة بأنّ خوفاً كبيراً بدأ يهدّد ذاكرة البشرية بالضياع بعد عشرين أو خمسة وعشرين سنة من الآن. والسبب في ذلك لا يعود الى فعاليات الأجهزة الإلكترونية التي أراحت البشر من المشقّة في حفظ المعلومات والأبحاث والأرقام بل الى حلول الذاكرة الإلكترونية مكان الذاكرة البشرية الى درجة التهديد بضمور العقل وهزال الذاكرة وسهولة الوقوع في الخرف الإلكتروني أو شيخوخة الأدمغة بما يشكّل تهديداً يومياً ناتجاً عن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا التي لا تولّد مشاكل في إشراقة الذاكرة وحسب بل ترمي الكثيرين في عالمٍ من الأمراض النفسية والفصام الإجتماعي والإكتئاب. ولست بحاجةٍ الى الدخول في ما يعانيه أساتذة الجامعات المشرفين على أبحاث الماستر أو الدكتوراه حيث تراجع الوضع الى مستوياتٍ متدنيّة بسبب السرقات وإستسهال نقل المعلومات وقتل الإبداع والتفكير عن طريق اللجوء الى غوغل حيث باتت الأبحاث مرهونة بال Copy أو ال Cut ثمّ ال Past options.

لست متيقناً تماماً من الربط بين فكرة باني غوغل وباني دبي، لكنني أعود متواضعاً، الى أطروحتي الثانية للدكتوراه بعنوان" الإعلام وإنهيار السلطات"، والتي نشرها مركز دراسات الوحدة العربيّة، بعد تعديلها، في طبعتين، بعنوان:" الإعلام العربي وإنهيار السلطات الإعلامية". كنت منبهراً بالثقافة التقنية الى درجةٍ عنونت فيها مقطعاً كما يلي: "العام 2020 : موت الكتاب"، لكنّني عدّلته في الطبعة الثانية معلناً خلود الكتاب. لم أنس في الأطروحة معضلة الأجيال التقنية التي تموت كلّ عام. ينسحب جيل تقني قبل بلوغه فيموت لطالح جيل جديد، والخطورة أنّ الأمر قد ينسحب على أجيال الإنترنت البشرية بما يتجاوز حدود الثقافة نحوإفراغ الذاكرة والتاريخ والحضارات وتجويفها أو محوها. كلّ ما نحفظه وتحفظه البشرية فوق الشاشة في Desktop أوMy document أو My pictures أو My videos أو Favorites أو Recent places أو الأقراص المدمّجة والمواقع اللامنتهية و"اليو إس بي" بمختلف أحجامها، ثمّ نستدعيه بسرعة فائقة تحت خانة Downloads مهدّد بالضياع أو الإمّحاء النهائي لأنّ أجيال البرامج والتقنيات تتطوّر بسرعة هائلة وتسبق البشر، وبفعل إستبدادية الإستهلاك ، يندفع الناس منصاعين الى تبديل مقتنياتهم التقنية كلّ عام أو عامين. وقد يستيقظون يوماً فيجدون ما خبّأوه بياضاً يستعصي إستعادته على برامج ال Dowloading. وهنا الكارثة ف"المكتوب ما منه مهروب" وفقاً للمثل الشائع، وهنا الكتاب المفتوح لنصوصٍ أخرى قادمة في حفظ الثقافة بين غوغل ودبي.