على مدى سنوات طويلة، اشتهرت السياسة السورية بـ"اللعب على حافة الهاوية"، لكن على ما يبدو باتت هذه المعادلة أساس البحث في أزمتها المستمرة منذ عام 2011، حيث تصل الأوضاع، بين الحين والآخر، إلى لحظة الإنفجار الشامل، لكن فجأة تخرج مبادرة إلى النور ترتكز على الحفاظ على الستاتيكو القائم، من دون أن يعني ذلك عدم تبدل الوقائع الميدانية رأساً على عقب في الفترات الفاصلة.

في السابق، كانت "الهاوية" تقوم على الدخول في حرب شاملة مع الجانب الإسرائيلي، أما اليوم فهي إندلاع مواجهة إقليمية ذات أبعاد دولية، بعد أن دخل أغلب اللاعبين البارزين على خط المواجهة، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا أن المفارقة تكمن بأن الجميع يمارس السياسة نفسها، مع بعض التعديلات التي تعود إلى الظروف الداخلية الخاصة، لكن الأكيد بأن الحرب خرجت منذ أشهر طويلة من إطارها المحلي، خصوصاً بعد أن أصبحت سوريا حجراً أساسياً في كل التصورات التي تطرح لمستقبل الشرق الأوسط الجديد، الذي سيولد من رحم الفوضى الممتدة في معظم بلدان المنطقة.

في هذا السياق، يمكن القول أن أزمة الأسلحة الكيميائية كانت حلبة المواجهة الكبرى الأولى، بعد أن كانت الأمور تُسير عن بعد، حيث خرج الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ معلناً عن التحضير لحملة عسكرية على سوريا، مدعوماً من بعض القوى الإقليمية والدولية الداعمة لقوى المعارضة، لكن البلبلة التي أحدثتها عملية رصد إطلاق صاروخين باليستيين في منطقة شرق البحر المتوسط، عبر الإنذار المبكر الروسي في شهر أيلول من العام 2013، دفعت الجميع إلى التروّي، ما أدى في نهاية المطاف إلى تسوية مقبولة، عبر إتفاق كل من واشنطن وموسكو على نزع هذه الأسلحة ، مقابل التراجع عن الخيارات العسكرية.

بعد نحو عام تقريباً، أي في شهر أيلول من العام 2014، عادت طبول الحرب الشاملة لتقرع من جديد، إنطلاقاً من الإعلان عن تشكيل "التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة، بعد أن كان تنظيم "داعش" الإرهابي قد نجح في كسر الحدود العراقية السورية المشتركة، منطلقاً نحو تهديد المصالح الدولية القائمة في إقليم كردستان، خوفاً من المواقف الروسية والإيرانية والسورية، إلا أن حصر العمليات بالحرب على الإرهاب أخرج المنطقة من عنق الزجاجة، خصوصاً بعد أن أعلنت دمشق في أكثر من مناسبة عن وجود تنسيق معها، مع العلم أن واشنطن نفت مراراً هذا الأمر.

في الحالتين السابقتين، كان حلفاء الولايات المتحدة يعربون عن إمتعاضهم من تردد إدارة الرئيس باراك أوباما في إعلان الحرب على ​الحكومة السورية​، عبر إستبعاد القوات الرسمية من دائرة الإستهداف، لكن واشنطن كانت تدرك جيداً أن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، لا سيما بعد أن عاد "الدب الروسي" إلى الساحة الدولية من بوابة دمشق، نظراً إلى أن شواطئها كانت المتنفس الوحيد لموسكو نحو البحر المتوسط، ما دفعها بعد ذلك إلى الدخول المباشر في الحرب عندما شعرت بارتفاع مستوى التهديدات العسكرية.

وسط هذه الأجواء، كانت نشاطات الجماعات الإرهابية تتوسع على نحو مطّرد، بحيث تحولت إلى تهديد عالمي بعد تنفيذ عمليات في البلدان الغربية، خصوصاً بعد تمددها نحو ساحات جديدة بعيدة عن الأراضي السورية والعراقية، لكن محاولات القوى الداعمة لفصائل المعارضة قلب موازين القوى، عبر دفعها نحو السيطرة على إدلب وجسر الشغور، دفعت بموسكو إلى إعلان الإستنفار، والدخول على خط الحرب بشكل مباشر وقوي، فعادت مخاطر الحرب الشاملة إلى الواجهة من جديد.

منذ ذلك الوقت، أي في شهر تشرين الأول من العام 2015، تبدل المشهد على الساحة السورية بشكل دراماتيكي، من خلال وضع موسكو خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، تبدأ من التركيز على أن بوصلة الأحداث أصبحت مواجهة التنظيمات الإرهابية، ما أدى إلى إنقسام اللاعبين البارزين إلى محورين، إلا أن دبلوماسية المؤتمرات التي إنطلقت من فيينا إلى نيويورك، نجحت في التوصل إلى صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي، وصف بأنه الخطوة الأولى نحو إنطلاق المسار السلمي، لكن الأمور عادت إلى نقطة الصفر بعد فشل مفاوضات مؤتمر جنيف الثالث، على وقع التقدم الذي أحرزته العمليات العسكرية السورية، المدعومة من ​روسيا​، في إستعادة السيطرة على ريف اللاذقية وتحقيق إنجازات نوعية في أرياف حلب.

في الأيام الأخيرة، كادت الأمور تصل إلى الإنفجار الشامل، بعد الإعلان السعودي التركي عن الرغبة في إرسال قوات عسكرية برية إلى الداخل السوري، تحت غطاء محاربة تنظيم "داعش"، وجاء التعبير الأفضل عن الواقع الجديد على لسان رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف، الذي حذر من إندلاع حرب عالمية ثالثة، إلا أن مجموعة الدعم الدولية في ميونخ نجحت في إعادة التهدئة، عبر الحديث عن التوصل إلى إتفاق لوقف إطلاق النار يبدأ خلال اسبوع، لكن من دون أن يشمل الجماعات الإرهابية.

النقطة الأخيرة، قد تكون أساس الأزمة السورية في المرحلة الراهنة، من هي الجماعات التي تصنف "إرهابية"؟ حتى الآن ليس هناك من تحديد واضح لها، باستثناء الإتفاق على وضع كل من تنظيم "داعش" وجبهة "النصرة"، وقد تكون السبب في إنهيار إتفاق ميونخ لاحقاً، لكن الأكيد أن جولة جديدة من اللعب على حافة "الهاوية" ستبدأ عما قريب.