لطالما كان "التيار الوطني الحر" رمز "النضال" ضدّ كلّ أنواع وأشكال "الرمادية"، بمختلف تصنيفاتها، من "وفاقية" إلى "وسطية" وما لفّ لفّها، ولطالما كان قياديو "التيار" ينعتون كلّ منتهجي مسار "الرمادية" بأنّهم "بلا لون ولا طعمٍ"، بكلّ بساطة.

ولكن، في زمن العجائب والغرائب، بات "التيار" هو الذي يُتَّهَم اليوم، من قبل ما تبقّى له من "خصومٍ"، بأنّه "الرمادي"، اتهامٌ يردّه البعض إلى سياسة "الانفتاح" غير المسبوقة التي ينتهجها "التيار" منذ بدء "موسم" الرئاسة الضائعة، سياسة أوصلته ليخوض انتخاباتٍ جنباً إلى جنب من قال ذات مرّة أنّ "إبراءهم مستحيل"!

تنازلاتٌ وحسابات...

بالأمس، سارع المكتب الإعلامي لرئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون ليردّ على مقالٍ صحفي نسب إلى "عونيين" قولهم أنّ مشكلتهم هي مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الرجل الذي يعرف الأقربون والأبعدون أنّ "الكيمياء" بينه وبين "الجنرال" مفقودة وأكثر. تزامن ذلك مع "مديحٍ" تلقّاه بري من تكتل "التغيير والإصلاح" على خلفية ما وُصِف بـ"تراجعه" عن عقد جلسةٍ تشريعيةٍ تغيب عنها المكوّنات المسيحية الرئيسية، "مديحٌ" لم ولن ينفع في إخفاء التاريخ الطويل من "الصراعات"، والتي وصلت في أحيانٍ كثيرة لمطالباتٍ متبادلة باعتذاراتٍ ومراجعات.

وقبل الأمس، لم ينزل إعلان لائحة "البيارتة" برداً وسلاماً على الكثير من "العونيّين" الذين لم يخفوا في مجالسهم الضيّقة أنّ اللوائح المنافسة تمثّلهم أكثر من لائحةٍ تُعلَن من دارة رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ وتحظى بـ"مباركته" و"رعايته"، وإن كان "التيار" ممثَّلاً فيها، خصوصًا أنّ الأمر شكّل "سابقة" فريدة من نوعها، وضعت "التيار" جنباً إلى جنب من حاربهم لعقودٍ طويلة، وفي وجه "رفاقٍ قدامى" لطالما تشارك وإياهم النضال، و"مجتمعٍ مدني" لطالما اتّهمه بأنّه "تبنّى شعاراته ومبادئه".

وتُضاف هذه التطورات المستجدّة إلى سلسلة من المواقف التي خرج بها "التيار الوطني الحر" في الآونة الأخيرة، والتي بدت "مفاجئة" لكثيرين ممّن واكبوا "التيار البرتقالي" منذ نشأته. وإذا كان "تفاهم" عون مع خصمه التقليدي، رئيس حزب "​القوات اللبنانية​" ​سمير جعجع​ شكّل في هذا السياق "صدمة" وإن أخذت طابعاً "إيجابياً"، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّه لم يكن ليحصل لولا "الحسابات الرئاسية" التي تحكّمت بعون وجعجع في آنٍ واحدٍ، خصوصًا بعد ترشيح رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري لحليف عون المفترض رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية، والذي قيل أنّ حظوظه قبل هذا "التفاهم" كانت أكثر من وافرة. وربطاً بالاستحقاق الرئاسي، كثيرة هي المواقف "العونية" التي يمكن الوقوف عندها، وبينها على سبيل المثال لا الحصر "الإبراء المستحيل" الذي لم يعد مستحيلاً عندما فُتِحت قنوات التواصل بين الرابية وبيت الوسط، وعاد مستحيلاً من جديد مع انقطاعها.

من هو الرمادي؟

وعلى الرغم من أنّ استراتيجية "التيار" الجديدة تبدو مناقضة شكلاً ومضموناً لخياراته القديمة، التي كانت دومًا قائمة على "الصراحة الفجّة" و"محاربة الفساد"، فإنّها تجد داخله من يدافع عنها بشراسة، تارةً باعتبار أنّ "الانسحاب من المشهد" هو هروبٌ من المسؤولية بالدرجة الأولى، وطوراً لأنّ "المعارضة من الداخل" ذات وقعٍ أكبر وأقوى.

وتمامًا كما يبرّر "العونيون" رفض الاستقالة من المجلس النيابي رغم التمديد الذي يصفونه بغير الشرعي، ومن الحكومة رغم انعدام إنتاجيّتها وقلة فاعليّتها، برفضهم ترك الساحة مشرّعة لخصومهم ليفعلوا ما يحلو لهم، يقولون أنّه كان بإمكانهم رفض الانخراط في "التوافق" على ​الانتخابات البلدية​ في بيروت، ومواجهة "المحدلة"، سواء بالتحالف مع اللوائح المنافسة أو بإنشاء لوائح خاصة، ولكنّ هذا الأمر لم يكن ليعدو "تسجيل الموقف"، نظراً للحسابات البلدية المعروفة، في حين أنّ انخراطهم في المجلس البلدي من شأنه أن يترك تأثيراً كبيراً، خصوصًا إذا ما كانوا سيستكملون محاربة الفساد والاحتكار، ولكن من الداخل هذه المرّة.

هذا المنطق لا يجد "آذاناً صاغية" لدى معارضي "التيار"، الذين يقولون أنه يثبّت يوماً بعد يوم "رمادية" لطالما كان ينبذها هو قبل غيره. ويسألون في هذا السياق: "أليس رمادياً من يهادن خصومه ويجلس معهم على طاولة واحدة، بل يخوض الانتخابات ويده بيدهم؟ أليس رمادياً من يتبرّأ من كلّ معاركه السياسية وغير السياسية تحت عناوين شتّى من الانفتاح إلى التوافق إلى المصلحة العامة وغيرها؟ أليس رمادياً من يحسب حساباً لكلّ حركة ولكلّ موقف، ويتجنّب قول كلمة الحق خشية أن تؤدّي لامتعاض هذا وذاك؟ أليس رمادياً من شكّلت الحريرية السياسية عنواناً لكلّ نضالاته، فإذا به يتباهى بعضوية في لائحةٍ تصنّف على أنّها حريرية بامتياز، وقد حظيت بصورة "سلفي" من سعد الحريري بالذات؟ وإذا لم يكن من يحمل كلّ هذه الصفات رمادياً، فمن يكون الرمادي إذاً؟"

الغاية تبرّر الوسيلة؟!

ولكن، وعلى قاعدة "الغاية تبرّر الوسيلة"، يقرّ هؤلاء بأنّ هذه "الرمادية" لها مبرّراتها ومقوّماتها، في مرحلةٍ يخوض فيها "التيار" نضالاً لاسترداد "الرئاسة" من مصادريها، حين لم تعد المعارضة من الخارج، وقد خبرها "العونيّون" وجرّبوها، تجدي.

المطلوب اليوم وضع رِجلٍ داخل المؤسسات للتحرّك أكثر فأكثر، والمطلوب الحفاظ على علاقاتٍ جيّدة بل مثالية مع الجميع، كيف لا والعماد عون يسوّق نفسه كمرشحٍ توافقي أوحد للرئاسة، ولعلّ "بيت القصيد" و"السرّ" خلف كلّ شيء يكمن هنا، فقط هنا...