بعد أن سقطت الهدنة في الميدان السوري، نجحت الولايات المتحدة و​روسيا​ بالوصول إلى أخرى مصغرة، تستثني منها بشكل رئيسي ​مدينة حلب​، نتيجة قيادة جبهة "النصرة" الإرهابية المعارك هناك، ما يعني أن التركيز في الأيام المقبلة سيكون عليها، في وقت كانت فيه الجبهة تتحضر إلى معارك مع "​جيش الإسلام​"، المدعوم من السعودية، في ​الغوطة الشرقية​، مع العلم أن تحريك جبهات حلب جاء بعد تحقيق ​الجيش السوري​ إنتصاراً معنوياً كبيراً في مدينة تدمر الأثرية، كان من المتوقع بعده أن ينطلق نحو ​دير الزور​، التي تعتبر من أهم معاقل تنظيم "داعش" الإرهابي، فما الذي حصل؟
كان المقصود من تفجير الأوضاع في حلب إنقاذ "داعش" بشكل مؤقت، نظراً إلى أن المطلوب تأخير المعارك ضد معاقله إلى حين تحضير القوى التي يراد تسليمها المناطق التي يسيطر عليها التنظيم الإرهابي، حيث التركيز الأميركي الواضح على المناطق الشرقية في سوريا، لا سيما تلك الواقعة على الحدود مع العراق، بسبب رغبتها في تقطيع أواصر الحلف السوري الإيراني اللبناني، عبر "حزب الله"، وهذا الأمر لا يمكن أن يحصل من دون قوات فصل بين الأراضي السورية والعراقية، من المفترض أن تكون من حلفاء واشنطن المحليين، أي عبر الأكراد والعشائر العربية المتعاونة معها.
في السياق نفسه، قد تكون الإشتباكات التي وقعت مؤخراً في طوزخورماتو في العراق، بين قوات "​الحشد الشعبي​" و"​البشمركة​"، على إعتبار أن السيطرة على هذه المدينة تسمح لطهران بالإنتقال منها إلى المناطق الواقعة في شمالها، وصولاً إلى كركوك ثم مخمور، وانطلاقاً منها إلى الحدود العراقية السورية، في حين أن سيطرة الأكراد عليها تحول دون تحقيق هذا الهدف.
بالعودة إلى حلب، كانت مختلف القوى الفاعلة في المدينة، في الفترة الأخيرة، تتحضر إلى "كباش" كبير، وهو ما ترجم من خلال الهجمات المتعددة التي تعرضت لها، لكنها في الواقع السياسي تعتبر أولوية بالنسبة إلى الحكومة التركية، التي لها مصلحة إستراتيجية بأن تكون خاضعة لها، في حين أن الحكومة السورية تعتبر أن السيطرة عليها تعتبر إنتصاراً كبيراً، كونها العاصمة الصناعية في البلاد، بالإضافة إلى أنها تضم عائلات من الطائفة السنية بحاجة إلى وقوفها بجانبها، الأمر الذي يُفسر تزويد فصائل المعارضة المسلحة بالمزيد من الأسلحة والذخائر، والدفع بها من قبل أنقرة إلى التنسيق مع "النصرة"، مقابل إرسال الجيش السوري تعزيزات كبيرة إلى المنطقة.
ما تقدم يقود إلى الإعتقاد بأن هناك معركة كبرى ستقع في هذه المدينة الإستراتيجية، حيث تضارب المصالح الروسية التركية والسورية، بالإضافة إلى الكردية التي تشكل أحلامها خطراً على وحدة دول المنطقة مجتمعة، من تركيا إلى سوريا إلى إيران وصولاً إلى العراق، وبالتالي سيكون اللعب على المكشوف فيها، نظراً إلى أنها قد تكون مفصلية في مستقبل الحرب السورية، على إعتبار أنها مؤثرة في الميدان السياسي والعسكري، فنتيجتها ستكون مقررة بالنسبة إلى خيارات التقسيم أو الفيدرالية، من دون إهمال الدور الذي قد يأخذه الأكراد في المنطقة، بالتزامن مع دورها في السياسة الخارجية التركية.
من هذا المنطلق، يمكن الحديث عن واقع معقد إلى حد بعيد، لا يمكن حسم صورته بأي شكل من الأشكال، بل هو قد يزداد تعقيداً في المستقبل، لا سيما إذا ما فشلت جميع القوى المتصارعة في حسم المعركة لصالحها بشكل نهائي.
بالتوازن مع ذلك، شكل الهدنة الحالية يمثل ضغطاً على المعارضة السورية "المعتدلة"، من خلال الضغط على "النصرة"، التي تشكل الرقم الأصعب في معارك حلب، وبالتالي عليها أن تختار بين البقاء إلى جانبها أو الخروج من مناطقها، وهو ما كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد دعا له في الأيام الأخيرة، وطلب من الولايات المتحدة التعاون لإنجازه.
في المشهد العام، يتأكد يوماً بعد آخر أن الإدارة الأميركية غير راغبة في إنهيار تفاهمها مع الحكومة الروسية مها كان الثمن، وبالتالي هي لن تتردد في تقديم تنازلات معقولة في حلب، في حال دعت الحاجة إلى ذلك، للحصول على أثمان باهظة في مناطق أخرى، في مقابل إصرار القوى الإقليمية المتحالفة معها على الإستمرار في المعركة حتى النهاية.
في المحصلة، ستكون حلب على موعد مع حرب إستنزاف طويلة، ستضع فيها كل القوى المعنية ثقلها لتحقيق إنتصار معنوي وعسكري ضخم، لكن المخططات الحقيقية ستكون في المناطق الشرقية، حيث الرغبات الأميركية الواضحة.