أدرك منذ البدء أن لا وطنَ يحلُّ مكان وطني، ولا حبيبة تحلُّ مكان حبيبتي ـ أمتي.. إنا من مواطنيك منذ ما قبل التكوين، عندما وضع حاكم مدينة لكش، أوروكاجينا أول مثال مبكر للإصلاحات 2350 قبل الميلاد . وعندما أعطت أوروب، شقيقة قدموس، اسمها لقارة الظلمات فكانت أوروبا، وعندما وضع القائد هانيبعل أول خطة عسكرية لاجتياح العدو فاجتاز البحر وجبالاً وعرة بفيلته وحاصره عشرات السنوات حتى شاخ شبانه الجنود، وأصبح «هانيبعل على الأبواب» مثلاً يُقال للخطر، وبقيت خططه العسكرية تدرّس في الأكاديميات العسكرية عالمياً، وعندما ساوى قائد النهضة المفكر أنطون سعاده بين السوريين مواطني امة واحدة جديرة بالانتصار حقوقاً وواجبات بلا انتقاص أو تفاوت.

ولكن ما الذي يحدث؟

هل نمشي وراء جنازة «غودو» ولا ننتظر أحداً بعد أن تحوّلت حلب من مدينة الحدائق ومقاهي الرصيف، ومجاميع الأدباء والمثقفين، إلى أكبر جرح في تاريخ مدن سورية؟! أو كما لو كان بعض أبنائها الذين أصابتهم لوثة الخيانة وقد اعتبروها «ثورة»، وكأنهم جاؤوا من الفضاء أو مصنوعين في الخيال.. غريبي الروح كما يقول الشاعر الشعبي عن أهلهم وحاراتهم وتاريخهم!!

ولكن مَن ينفخ في حلب، أو ديرالزور، أو القامشلي واللاذقية، روح الدمار؟! مَن يداوي مدننا المنائر من جراح وفتوق ودمامل؟! ومَن سيسترد بهاءها؟!

إن المثل التي آمن بها هذا البعض تحت وطأة الحقد والكراهية والمذهبية، التي أعلن عنها شيوخ الفتنة كالقرضاوي والعريفي، قد استحالت إلى كومة مقابر منتحبة، فكأن سورية «أرض يباب» بالأذن من ت. س. اليوت . فهل سيتلاشى وهمهم، بأن يجعلوا من حضارة سورية بحرقهم كل شيء فيها مزيّفاً: الجغرافيا والتاريخ والثقافة والعلوم؟

ندرك أن مدّعي الفتنة، حياتهم مجدبة، وهم في يأس يتدحرجون نحو الهاوية، وليس ثمة يقين في لاوعيهم بأي نصر على الجيش السوري، وقد أيقنوا أن سفينتهم توشك أن تغرق.

شكراً لكما يا مدّعيي الفتنة، يا قرضاوي ويا عريفي، فقد كانت سورية واضحة بلا مواربة، صادقة كل الصدق وهي تُشعركما بعمق خيبتكما، وقد استحالت «بلاعيمكما» بالوعات لمشيخات الخليج.

هذا الصراع تحول إلى كشّاف لأزمة العقل الثقافي السوري، ولاستنطاق الكثير من الوقائع والمظاهر الخادعة، فهل أوصلنا العمى السياسي، والصمم الوطني، والخرس الفكري إلى هذا الجنون؟

أخاف من أن ثمّة جوعاً حقيقياً للموت بداخلنا، بعدما أصبحت الأحلام أجساداً مذبوحة، وكأني بالشاعر السوري الراحل محمد الماغوط لا زال يصرخ فينا..»أيها النسّاجون.. أريد كفناً واسعاً لأحلامي..».

يقول الروائي العالمي أمين معلوف:

«أيها الحزن .. ألم تؤلمك ركبتاك من الجثو فوق صدورنا؟».