بين تركيا وإيران صراع نفوذ منذ القدم، ساحته العالم العربي. في زمن الإمبراطوريات لم يكن للحدود حرمة ولا للقوميات وزن. ومع الدول الحديثة منذ نحو قرن الى اليوم، اختلفت المعايير والمعطيات، فبات للاقتصاد حساب وللايديولوجيا موقع وللسيادة والقانون اعتبار وللنظام العالمي دور مؤثر.

استقرت العلاقات بين العثمانيين والفرس منذ مطلع القرن التاسع عشر. وجاء ترسيم الحدود بين إيران وتركيا في العام 1932 استناداً الى معاهدة قصر شيرين في العام 1639. بعد انهيار السلطنة العثمانية، ذهبت تركيا، الدولة الناشئة بقيادة مصطفى كمال (اتاتورك)، باتجاه الغرب، سياسياً وثقافياً، ولم تعد الى المحيط الإقليمي إلا مع حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان. وقد يكون الحزب الحاكم في تركيا منذ العام 2002 نسخة جديدة منقحة عن «تركيا الفتاة»، التي نادت بالتتريك باسم القومية التركية. مارست «تركيا الفتاة» نفوذها عبر جمعية الاتحاد والترقي في مطلع القرن العشرين وناهضت التوجّه الاسلامي للسلطان عبد الحميد، بينما «تركيا فتاة» أردوغان تتبنى الأسلمة، والتتريك المعاصر يستهدف الأكراد. منطلقات الطرحين مصدرها واحد، على رغم الاختلاف في المضمون والأهداف بحسب ظروف كل من الحقبتين.

في إيران كان الانتقال من نظام الشاه المتحالف مع الغرب الى إيران الإسلامية التي اصطدمت مع المعسكرين الغربي والشرقي. بدأت المواجهة بين واشنطن وطهران مباشرة بعد إطاحة نظام الشاه، وجاء إنشاء مجلس التعاون الخليجي في العام 1981 بدعم اميركي رداً على الاهتزاز الذي أحدثته الثورة الإسلامية في موازين القوى الإقليمية. انتهت القطيعة بين واشنطن وطهران بعد أكثر من ثلاثة عقود مع «اتفاق فيينا» في العام 2015. طريق تنفيذ الاتفاق سالكة، الا انها عرضة للانتكاسة، لاسيما في مرحلة ما بعد الرئيس اوباما، ومع الكونغرس الأميركي تحديداً، حيث لإسرائيل نفوذ يفوق نفوذ الرئيس الاميركي، لأي حزب انتمى.

طموحات إيران الإقليمية انطلقت في مطلع الثمانينيات. وجاءت سلسلة تطورات لمصلحة إيران، ولم يكن لها يد في صنعها، أبرزها اجتياح صدام حسين الكويت والحرب لتحريرها، وبعد سنوات الغزو الأميركي للعراق. كما بَنَت ايران تحالفاً وثيقاً مع سوريا المتحالفة بدورها مع المملكة العربية السعودية، وتلاقت مصالح الأطراف الثلاثة في لبنان في زمن الحرب وما بعدها. الترجمة العملية لهذا الواقع تجسدت بالتعاون المجدي بين الرئيس رفيق الحريري و "حزب الله".

ومع تزايد التطرف الديني بعد حرب أفغانستان في مواجهة الاتحاد السوفياتي ولاحقاً حرب تحرير الكويت والتمدد الاميركي العسكري في الخليج، لاسيما في السعودية، ازداد الشرخ المذهبي ومعه المزايدة في حماية الدين من الأعداء: "العدو الأقرب" في دار الاسلام والأبعد في ديار الغرب «الصليبي». ولم تسلَم السعودية من حملة التطهير الديني مع اقتحام المسجد الحرام في العام 1979. وجاءت حرب العراق في العام 2003 لتزيد التباعد بين واشنطن ودمشق ولتمّهد الطريق لصدور قرار مجلس الأمن 1559 الذي أسقط الغطاء الأميركي والدولي عن الدور السوري في لبنان، فاهتزّت ركائزه الإقليمية، خصوصاً السعودية والإيرانية. وانقلبت الأوضاع رأساً على عقب مع اغتيال الرئيس الحريري والانتفاضة الشعبية "رفضا لنظام الوصاية".

فاذا كانت حروب لبنان والعراق والمحيط مدخلا للنفوذ الإيراني في المنطقة، "فالربيع العربي" كان مدخلاً للنفوذ التركي الإقليمي عبر سوريا. لم تترك أنقرة وسيلة لإسقاط النظام السوري ودعمت الاخوان المسلمين في المنطقة، على رغم امتعاض الرياض المتخاصمة مع الاخوان. فمن دور المسهّل للمفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، تحولت تركيا رأس حربة في الحرب السورية وفي دعم التنظيمات السلفية الجهادية الأكثر تطرفاً.

تفاقُم الشرخ المذهبي في المنطقة لم يعطّل العلاقات السوية بين إيران وتركيا. وعلى رغم انزعاج تركيا من المصالحة بين إيران والدول الكبرى، الا ان العلاقات بين أنقرة وطهران لم تتأثر ومعها المصالح المشتركة للدولتين، لاسيما بعد الصدام بين تركيا وروسيا. تعرضت العلاقات الايرانية ـ التركية في السنوات الأخيرة للاختبار وصمدت، تُحصّنها الإرادة المشتركة بتحييد العلاقات الثنائية عن الصراعات الإقليمية. وكان أبرز التحديات منظومة صواريخ الحلف الاطلسي في تركيا في العام 2011 التي أحدثت أزمة عابرة بين أنقرة وطهران تم تجاوزها بهدوء واتزان.

وكان لافتاً أداء الطرفين في القمة الاسلامية في اسطنبول. قاطع الرئيس الإيراني جلسة البيان الختامي الذي ندّد بتدخل طهران في شؤون الدول الإسلامية وعقد اجتماعات عمل مع الرئيس التركي في اليوم التالي. تركيا تُدين إيران في المؤتمر الإسلامي وتتابع مصالحها مع الطرف ألمُدان بعد المؤتمر. كلام الليل يمحوه النهار. أما المواجهة فمستمرة خارج حدود الدولتين.